دولة التلاوة في مصر تاريخ التيه والغرق، لعبد الرحمن الطويل

(1)
أول التيه

كان العام 1953 حدًا فاصلًا في تاريخ مصر، ففيه ماتت الملكية ووُلدت الجمهورية، ويبدو أيضًا أنه كان حدًا فاصلًا في تاريخ دولة التلاوة المصرية العريقة، والإذاعة المصرية الرائدة، فقد كان آخر عام دخل الإذاعةَ فيه قارئ عبقري، هو الشيخ محمد صديق المنشاوي، خاتمةً لقائمة شرف طويلة من القراء العباقرة أصحاب الأصوات المُعجزة والمدارس العلية في فن التلاوة، من قبل أن تُنشأ الإذاعة بعقود، وخلال عِقدين ذهبيين من تاريخ تفَجُّر أرض مصر بالمواهب الإذاعية (1934-1953).

بعد ذلك التاريخ بالتأكيد دخل الإذاعةَ المصريةَ قراء جيدون مجيدون، لكنهم لم يكونوا كمن سبق، لم تكن أصواتهم معجزة ولا مدارسُهُم علية، لم يكونوا آباء للفن ولا أعمدة لصرحه، ولم يحققوا من النجاح والشهرة التاريخية الخالدة ما حققه الأولون من ثلاثة أجيال ازدهر بها الأثيرُ خلال أول عِقدين من عُمر الإذاعة.
واللافت للنظر أنه لعِقد كامل بعد هذا التاريخ، لم نُسجل دخول قارئ مُبرز له أدنى حد من الشهرة والسيرورة والشهود له بالإجادة، ولا يُقدم لنا التاريخ انضمام أسماء شهيرة إلى الإذاعة إلا عام 1962، وكأن الإذاعة طيلة عقد (1953-1962) قد تشبَّعَت بالكثرة الغنية من قرائها الفحول، ولم تعُد بحاجة إلى ضم أحد، أو أن مَن دخلها خلال هذا العقد لم يكن ليُسمَع ويُشهر، كان ليُطوى في ثياب النسيان.
دُفعة 1962 ضمت أربعة قراء من ثلاثة أجيال عُمرية، محمد ساعي الجرزاوي المولود عام 1912، وعبد العزيز علي فرج المولود عام 1927، ومحمد بدر حسين وراغب مصطفى غلوش المولودين عام 1937، ويُمكننا اعتبارهما فاتحة الأجيال اللاحقة من القراء، إذ تجوّز الزمنُ والسماعُ وتواريخ الوفاة في إلحاق الأولين بالرعيل الأول.
خلال سنوات الستينيات وأوائل السبعينيات دخل الإذاعةَ قراء آخرون بعد بدر وغلوش، واستوى في الإذاعة جيل جديد لم يُدرك أيام البث المباشر ودقدقة الاسطوانات العتيقة.
كانوا جيدين مجيدين، لكن أصواتهم لم تكن معجزة، وأساليبهم لم تدل على عبقرية.
وأدل دليل على أن أصواتهم لم تكن معجزة أن تلاواتهم داخل ستوديو الإذاعة لم تحقق – ولم تزل لا تحقق – حضورًا عند المستمع، المستمع العادي الذي يحتفل بتسجيلات الرعيل الأول في الاستوديو، وبدقاتها وصداها السابق، وبأسطوانات الشيخ محمد رفعت الطافحة بالخشخشة، يحتفي بكل هذا لأنه يسمع منه أصواتًا مُعجزة الجمال لا تقاومها الأذن، أما الذين أتوا بعدهم فلم تكن لحناجرهم الجاذبية على ما تيسر لها من تقدم في تقنيات التسجيل، الحقَّ أقول لكم إن هذا التقدم لم يكن في صالحهم أصلًا، ولقد اكتسبوا شهرتهم وشعبيتهم عند الناس من المحافل لا سواها.
أما الأساليب فغلب عليها أمران سلّم أحدهما في النهاية إلى الآخر:
الأول: أن كثيرًا منهم بدأوا مقلدين أقحاحًا للشيخ مصطفى إسماعيل، أو كانوا حديثي الخروج من عباءته، ولم يكن التقليد يضيف لآذاننا ولا لأسمائهم شيئًا، كما أن كل مُقلد للشيخ مصطفى إسماعيل باهتٌ يصغُر إلى جواره صغار نقطة الفاء إلى اسمه كاملًا.
الأمر الذي حملهم سريعًا إلى تأكيد الخروج من عباءته، فخرجوا خروجًا حائرًا لا يصحبه دليل، إلى الأمر الثاني الذي اتصف به منذ البداية غير المقلدين منهم:
وهو عدم وضوح الأساليب، أو وضوحها مع نقصها نقصًا شديدًا
فإما أنك أمام قارئ جيد، لكن أسلوبه يخلو من ملامح، فلا تجد له قفلات ولا نقلات مميزة تُنسبُ إليه، وإما أن تكون مع قارئ ذي قفلات ونقلات وجُمل تُميزه، لكنها ناقصة كثيرًا، كأن يتميز بجُمل في مقام واحد دون غيره، أو في الجواب وحده دون القرار وجواب الجواب، وقد تجد من لا يقرأ إلا بالجواب أصلا، ومن لا يقرب نصف المقامات.
ولا يمتنع علينا أن ننصف هذا الجيل، فنقول إنهم كانوا مجيدين، وكان أداؤهم جديرًا بأثير الإذاعة، لكن علينا أن نقول أيضًا إنهم انتفعوا كثيرًا بحياة بقية الرعيل الأول بين ظهرانيهم زمانًا طويلًا، وثقلت موازينهم بمرافقة الكبار والقراءة والسفر معهم، فلما رحل آخر الكبار، الشيخ مصطفى إسماعيل 1978 والشيخ محمود علي البنا 1985 والشيخ عبدالباسط عبدالصمد 1988 واعتزل الشيخ أبو العينين شعيشع لسطوة الشيخوخة على صوته، وخلا الصف الأول لقراء الستينيات والسبعينيات، وصاروا شيوخ الصنعة وكُبراء الطائفة، وقتها خف وزن الفن كله كثيرًا، وتعلق الناس بتسجيلات الراحلين وشعروا حقًا أن زمن القراء الكبار قد ولَّى، وأن من بقوا قطرة في بحر من رحلوا.

على أن جيل الستينيات كان بحرًا إذا قيس به من أتوا بعده، وكانوا في الجُملة قراء تصدق عليهم دلالة الكلمة، ولا يقدر أحد أن ينكر أن أحمد محمد عامر ومحمد عبدالعزيز حصان وإبراهيم الشعشاعي ومحمد أحمد شبيب ومحمود صديق المنشاوي ومحمود محمد رمضان وأحمد الرزيقي وشعبان الصياد كانوا صفحة بيضاء في تاريخ دولة التلاوة، لكنها صفحة دون ما سبقها في الفصاحة والبلاغة.. بكثير.

(2)
آخر التيه
ما كان في جيل الستينيات وأول السبعينيات شأن، وما كان في جيل أواخر السبعينيات والثمانينيات شأن آخر تماما، ولا يخلو الأمر من آثار مباشرة للتحولات الاجتماعية التي أصابت مصر بين عبدالناصر والسادات، والانفتاح والسفر إلى الخليج، وشيوع أجهزة التسجيل في المدن والأرياف بعدما كانت مقصورة على الأثرياء والمفتونين بالإبداع.
وهكذا صار في مقدور كل قارئ وكل مستمع وكل فرد عادي أن يسجل لمن شاء وقتما شاء، وصار قراء القرى يسجلون ويُسجَّل لهم كل ما يقرأون، بل وأُنشئت شركات إنتاج الكاسيت في عواصم المحافظات ومدنها الصغيرة، في الدلتا خصوصًا، وكان من الطبيعي أن يقوم إنتاج هذه الشركات على القراء والمنشدين والمطربين المحليين، فغزَت أشرطتهم الأسواق في محافظاتهم ووصلت العاصمة، وهكذا فقدت الإذاعة مركزيتها وسُلطتَها الفردةَ في الإجازة والمنع، والحُكم على القراء بالأهلية أو عدمها، وصار لكل قارئ إذاعته الخاصة التي يعرفها جمهوره ويصل إليها يسهولة.
الآفة الكبرى التي نشأت مع التطورات هي عصبية جمهور المحافظات لقرائهم، وامتلاؤهم بهم، وتقديمهم لهم على سواهم من باب العصبية الجاهلية في السماع، فضمن القارئ الناشئ فيهم جمهوره قبل أن يُثبت نفسه، وتغيرت شرائح الجمهور المُرجِّح وتكويناته، فبعد سمّيعة الطرب ومستمعي الإذاعة قديمًا، صار الرأي لبضع مئات حضور سرادق في قرية ليس فيهم من يُعرف بالسماع، صار الرأي لسائق البيجو الذي يختار الشريط وركابها السبعة، صار الرأي لبقال يتبارك بسماع القرآن في دكانه كل صباح بشريط اشتراه من الرصيف، صار الرأي لبائع الأشرطة على الرصيف، فقد امتلأ الرصيف بأشرطة قراء السبعينيات والثمانينيات، وبقيت أشرطة الرعيل الأول حبيسة فروع صوت القاهرة وبعض الشركات الكلاسيكية التي تكاد تذهب مع من ذهب.
في الأخير، ومع تفشي الوضع الجديد، وذهاب القراء الكبار واحدًا تلو الآخر، وعدم تصور النخبة السمّيعة لما تؤول إليه الأمور، قبلت الإذاعة قراء الثمانينيات، واحتلوا مكانًا من الأثير، ومع رحيل آخر من رحل من الرعيل الأول في الثمانينيات، وشيخوخة جيل الستينيات، بدأ عقد التسعينيات بسيادة واضحة لجيل الثمانينيات الذين طمح بعضهم لشُباك النجومية واستحدث لنفسه أساليب وربّى مريدين ودراويش، وازدهرت في التسعينيات الأسفار السنوية إلى إيران وسُجلت تلاواتهم هناك تلفزيونيًا، وباتت إيران بحرًا خضمًا يغرفون منه نجومية وعالمية وشُهرة وتسجيلات ومالًا.
والباحث في أصوات وأساليب قراء الثمانينيات، المقارنها بقراء الستينيات والسبعينيات، سيجد أن المشكلتين الأساسيتين عند جيل الستينيات قد توسعتا وصارتا أظهر عوارًا.
أما الأصوات فقد ابتعدت عن الجمال والتميز حتى صار التفريق بينها يستعصي على المستمع العادي، بل والسميع، بل ونقيب القراء الشيخ أبو العينين شعيشع رحمه الله الذي ذكر كثيرا أنه لم يعد يستطيع التفريق بين قراء الثمانينيات والتسعينيات، بينما كان يميز صوت القارئ القديم إذا سمعه على بُعد 5 كيلو عبر مكبرات الصوت.
وما قاله صحيح جرّبه كل ذي أذن حية، فإنك تميز صوت قارئ الأربعينيات والخمسينيات إذا مرت السيارة مسرعة بصوته صادرًا من مذياع دكان، أما قراء الثمانينيات فلا تكاد أصواتهم تتمايز بالصفات أصلا حتى تُفرَّق، ولا تُضبَط إلا بعد المتابعة الشديدة وكثرة السماع على قلة العائد منه.
ثم إنك لا تجد لها الشمخة والرائحة والطعم الذي كان لأصوات الرعيل الأول، التي جعلت محمود السعدني يُشبّه كل قارئ منهم بصنف من الفاكهة فيصيب التشبيه وتجد طعم الفاكهة في أذنك.
وأما الأساليب، فأساليب قراء الثمانينيات كانت مصابة بآفتين غالبتين، آفة في مصدرها وآفة في موردها.
أما الآفة في مصدرها فأنها تفرعت بالأساس من أساليب قراء إقليميين ليسوا بعباقرة ولا مسموعين، إلا عند جمهورهم الإقليمي، فنبتت هذه الأساليب أولا من عصب ضعيف، ونزَعَت مِن بئر ناضب، فورثَت الضعف والفقر.
وأما آفة موردها فأنهم أرادوا أن يختطوا لهم قوالب تميزهم وقفلات تُنسبُ إليهم، على ضعف مصادرهم، فلم يأتِ أكثرهم من ذلك إلا بالحذلقة والتقعر والنشاز والإزعاج، والنغمة في غير موضعها، والعُربة في غير موضعها، والقفلة في موضع النقلة، والنقلة في موضع القفلة، ومن لم يأت منهم بشيء من ذلك بقي أسلوبه غُفلًا من الملامح مُصمتًا على التذوق كالبيت الذي لا باب له ولا شبّاك.
على أنّ أخطر ما أحدثه هذا الجيل هو التغير السلبي الكبير في ذوق وسلوك الجمهور، حتى سوّدوا جمهورًا لا سمّيعة فيه، يتعصب للإقليمية والجهوية، ويطرب لاستعراض العضلات ومجرد الزعيق.
وكان في هذا الجيل قراء صالحون لا يبدعون ولا يتميزون، فأخفاهم الآخرون بشعبية الحق حينًا، وجماهيرية الباطل أحيانًا.

(3)
أول الغرق

ما الذي حدث خلال جيلين من التراجع؟ كيف فقد الفن خلال ثلاثين سنة كثيرًا من أساساته الإبداعية وأساليبه القولية ومسالكه النغمية وتقاليده الفنية وكثيرًا من التفاصيل التي كانت تتخذ مكانها بين الأشياء فتُكسبُ الأشياء روعتَها في مكانها؟ كيف تفككت عربات القطار وأصبحت أبوابها إلى الهواء الطلق وصارت كل عربة تمشي وحدها دفعًا وعسفًا فتسبق الجرار ويذهب كل منها في طريق!
بدأ قراء الستينيات – وهُم جيل كريم – بين مقلد ومبدع على الأصول ومبتكر لأصوله، فأما المقلد ففرّ سريعًا من التقليد هربًا مِن مَعرَّتِهِ فوقع وأوقع السماع في حيرة الطريق، وأما المبدع على الأصول فاحترمها لكن شغلته رسوم الأصول عن الإبداع، وأما المبتكر لأصوله فرجل دار حول الشجرة، ورجل (لبس في الشجرة!).
لا بد هنا مِن تَقدمة تاريخية، فلقد شُهر الطربُ العربي منذ غابر الزمان وعتيق ما أدركنا من التسجيلات بالقفلة المُحكمة، ولم تكن التلاوة بدعًا من هذا الطرب الشريف الطاعن في عمر الزمان، وكان القراء الأقدمون من الجيل الذي سبق الإذاعة وربّاها على يديه يطيلون ما بين القفلة والقفلة، ويملأون ما بينهما بالإبداع نقلاتٍ وجُملًا نغمية ثرية التركيب مفعمة بالجمال والخشوع لا يشعر السامع معها اشتياقًا إلى القفلة، وأكثر ما تبين هذه الخصيصة في تلاوات الشيخين الشعشاعي والفشني خاصة تسجيلات الاستوديو، وتبين في تلاوات الشيخ رفعت أيضًا، لكنهما عُمّرا بعده زمانًا طويلًا سادت فيه القفلة.
وكان هذا المسار النغمي متباعد ما بين القفلات موافقًا لسياق غناء ما قبل الإذاعة الذي ساد فيه فن الدور بطوله وبُطئه وإعاداته وآهاته، قبل أن يتطور بناء الأغنية العربية خلال الثلاثينيات تطروًا سريعًا مذهلًا غاب معه الدور عن المشهد، واتجهت فيه الأشكال السائدة من قصيدة وطقطوقة ومونولوج إلى بناء واضح التقسيم إلى كوبليهات، ينتهي كل كوبليه منها بقفلة واضحة، زادت حرارتها مع ازدهار الأغنية الكلثومية المسرحية بعد ابتداء حفلاتها الإذاعية الشهرية عام 1937 وتأكدت بفضل عبقرية رياض السنباطي في بناء القفلات المنطقية الآسرة.
كان من الطبيعي أن يتطور نغم التلاوة ليمثل هذا التطور الجديد – ومادة نغم التلاوة في كل بلد من البلاد هو صورة من مادة نغم غنائه مُعدّلة بما يلزم لتليق بجلال الكتاب العزيز.
كان الشيخ مصطفى إسماعيل هو التطور الموازي في فن التلاوة، وهو فاتحة مرحلة ازدهار القفلات والجُمل الطويلة المقفولة وتحوّلها إلى وحدات أساسية للأداء، وبهذا سبق من أتى عليهم من القراء ونفَذ كالسهم إلى القمة، وتبعه إليها نجوم جيل الأربعينيات وأول الخمسينيات ، أبوالعينين والبهتيمي والبنا وعبدالباسط والمنشاوي، وبفضل هذا الأسلوب اكتسب فن التلاوة شعبيته الجارفة في أنحاء الوطن العربي، وصار هذا الجيل من القراء خاصة نجوم أُمة لا بلد، واتحدت عبقرية أساليبهم مع إعجاز أصواتهم لتخليدهم في الأسماع والأذهان.
وحين ظهر الشيخ عبدالباسط عبدالصمد أتى بظاهرة أخيرة زادها على الجملة المقفولة، وهي ظاهرة النفس الطويل، فكان لقُدرتِهِ على الإتيان بالجُملة المقفولة شديدة الطول أثر بالغ في امتلاك ألباب السامعين وبلوغ غاية الأداء.
بعد ذلك، ما الذي استطاع جيل الستينيات الاحتفاظ به من هذا الإرث؟ حافظوا بالأساس على طول الجملة الطويلة – أو شديدة الطول – المقفولة، لكن مع انخفاض واضح في جودة التكوين النغمي للجملة ذاتها، وعناية بعنصري الطول والقفلة على حساب الجُملة، على أنهم أيضًا لم يأتوا بكثير ابتكار في القفلات، وبرز منهم من نافس الشيخ عبدالباسط في طول نفسه، فنجح في أحيان كثيرة.
حتى كان دخول الشيخ الطبلاوي إلى الإذاعة عام 1970 تحولًا خطيرًا في الظاهرة، فالرجُل الذي فاق الجميع في طول نفسه – حتى الشيخ عبدالباسط نفسه – فاق الجميع أيضًا في فقر التكوين النغمي لجُمله، لكنه بهر الجمهورَ بطول نفسه وجُمله، فبدأ ذوق الجمهور العامي يتغير ويتأقلم مع أن الجمال في طول الجُملة لا في تناسب تكوينها فضلًا عن أن يبلغ تكوينها درجة العبقرية، وهكذا صار النفس الطويل وحده علامة الإبداع، وسادت العضلات الصدرية وغاب الفن، وورث جيل الثمانينيات هذا المنطقَ الجديدَ في الأداء، أدِّ جُملةً طويلةً بأي قفلة تكسب الجمهور ويهلل لك، وضاع منطق العبقري الشعشاعي قصير النفس الذي كان يحشد الجملة القصيرة عظمة وجمالًا وفخامة، وضاع منطق مصطفى إسماعيل الذي جعل القفلة خاتمة جملة حافلة بالإبداع والمفاجآت لا أول الإبداع.
قارئ وحيد في جيل الستينيات قاوم هذا المنطق وغلبه، لأنه كان قصير النفس، هو الشيخ محمد عبدالعزيز حصّان، لكنّ أحدًا من قراء السبعينيات والثمانينيات لم يكن مضطرًا إلى مشايعته في هذا التحدي الصعب عليهم، وقد وهبهم الله الصدورَ الواسعة والعضلات المتينة.
*****
بينما كان السلم الموسيقي العربي يبدأ عند المختصين بمقام الرست، آثر القراء الارتقاء بسُلم التلاوة درجة وابتداءه بمقام البياتي لخشوعه، ولحاجة مستمع القرآن إلى الخشوع والتخشيع قبل الإطراب، وصار الابتداء بمقام البياتي تقليدًا ثابتًا عند القراء، قرارًا وجوابًا، والإشباع بجواب مقام البياتي قبل التحول إلى مقام غيره، وغالبا كان التحول منه إلى مقام الحجاز، ثم لا يظهر في تسجيلات الجيل الأقدم من القراء ترتيب ثابت بعد ذلك، فهم يتنقلون بين المقامات بحِرفية شديدة ولياقة تُعد ذاتُها من الطرب.
فلمّا ظهر الشيخ مصطفى إسماعيل أتى بترتيب شبه ثابت للمقامات هو الأحسن تناسبًا بينها من حيث علاقاتها النغمية والشعورية، والأحسن للمستمع من حيث تقديمه مقامات الخشوع والرهبة والحنان على مقامات الفخامة والأبهة والفرح، هذا الترتيب شبه الثابت للمقامات (البياتي – الصبا – الحجاز – النهاوند – الرست – السيكاه – العجم) ولو سقط من التلاوة مقام أو اثنان احتفظت بقية المقامات بذات الترتيب، وقد يتقدم السيكاه على الرست إذا سقط النهاوند، ونظرًا لوجاهة الترتيب ولياقته من جهتي الخشوع والنغم فقد التزم به كل القراء الذين أتوا بعد الشيخ مصطفى، يستقبلون المستمع بالخشوع والتخشيع والتحزين قبل الفخامة والفرح، فيشبعون شعورًا بعد شعور، ويستعينون بالمقامات على التعبير عن المعاني، وكان الخروج على هذا الترتيب نادرًا معدود التسجيلات لا يُقصد منه إلا كسر العادة مرة لكسر الملل.
فلما كان جيل الستينيات من القراء تجاسر بعضهم على كسر هذا الترتيب كسرًا منتظمًا مطردًا في تلاواتهم، بالابتداء بقرار البياتي ثم الارتقاء منه إلى جواب الرست والقعود فيه والإسهاب، حتى إذا شبعوا منه وأشبعوا انتقلوا إلى مقام السيكاه، وربما عادوا بعدها إلى الرست، وقد يمرون على جواب البياتي عرضًا بلا شهية ولا طعم، وهكذا ضيعوا حظ المقامات الأشد خشوعًا (البياتي والصبا والحجاز) وضيعوا حظ فروع السيكاه الأشد خشوعًا (الهزام والعراق لاشتباكهما بالحجاز والبياتي) وفرطوا من البداية في الحالة التي ينبغي أن يُدخل فيها المستمع، ودخلوا بالتلاوة تيهًا أسلوبيًا لم تخرج منه، وفشت الآفة أكثر عند قراء الثمانينيات، وضاع خشوع التلاوة وضاعت هيبتها لهذا السبب بالأساس، مع نقص الإبداع الملحوظ عند قراء الثمانينيات عن قراء الستينيات، حتى صار القارئ يقرأ التلاوة الطويلة كلها بمقامين أو ثلاثة، وبدون أي غوص في تفرعاتها لجهله بهذه التفرعات.
ثم أتى في جيل الثمانينيات من أراد أن ينفرد بمدرسة تضارع القدامى الكبار ويُحدث لنفسه أسلوبًا يُنسب إليه، فعكَسَ الترتيب القديم وردّه على عقبه، وصار الترتيب المتبع عنده بعد الارتقاء من قرار البياتي (الرست – السيكاه – الحجاز – الصبا – البياتي)، والحقيقة أن هذا الترتيب المعكوس ليس فيه إلا الفلسفة الفارغة، وخالف تُعرَف، وهذا ليس منطقًا في الفن، ولا يجد معه السمّيع إلا دوارًا كدُوار الجالس في كرسي السيارة المعاكس لاتجاه السير!
وجيل الثمانينيات ظهر في تلاوات قرائه كثير من الملامح الأسلوبية كثير من الحذلقة والفلسفة الفارغة، والنقلات والقفلات التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، ولا أب شرعيًا لها من مسالك النغم المعتبرة، والتي لم يكن لها داعٍ إلا الإتيان بجديد يخالف ما سبق ليُنسب إليهم، وحقًا كان يخالف كل ما سبق، لقد كان شيئًا كالمُحسنات البديعية المتكلفة من الشاعر الضعيف، لا هي طريفة ولا ما قبلها وبعدها شِعر، في هذه الحقبة دخل فن التلاوة مرحلة طويلة ومعقدة من العك الأسلوبي لم يخرج منها إلى يومنا هذا.

(4)
آخر الغرق
شهد العقدان الأخيران تدهورًا اجتماعيًا شديدًا تمثل في سيطرة الوراثة على كل مجالات العمل والحياة، وصار توريث التخصص قاعدة في كل تخصص له مزية من سلطة أو مال أو شهرة أو وظيفة مضمونة، فصارت القاعدة أن ابن الضابط ضابط وابن القاضي قاضي وابن المحامي الكبير محامي وابن أستاذ الجامعة أستاذ جامعة وابن المذيع مذيع وابن الممثل ممثل وابن لاعب الكرة لاعب كرة، بل إن المتأمل يجد جميع ممثلي جيل السبعينيات والثمانينيات أبناؤهم ممثلون مشاهير الآن، بلا استثناء يُذكر، وبلا مواهب لافتة أيضًا.
وهي ظاهرة تعكس فقدان الناس الثقة في نظامي التعليم والعمل في البلد، فالشاب لا يخاطر في مجال لا ظَهر له فيه، ويُفضل – ويفضل أبوه قبله – أن يدخل مجال أبيه ضامنًا فيه مكانًا مرموقًا بفضل ما لأبيه من سلطة أو شهرة أو منصب، بل ضامنًا لنفسه ما لأبيه من سلطة أو شهرة أو منصب، وإن كان بلا موهبة ولا أهلية.
ولم يكن (سوق القراء) بدعًا من هذا، فاحترف أبناء جميع قراء جيل الثمانينيات التلاوة، احترفوها ولم يمارسوها هواية كما كان يفعل أبناء القراء الموهوبون قديمًا، احترفوها وبدأوا حياتهم كبارًا ومشاهير بفضل شهرة آبائهم وتسعيرة آبائهم، بلا مواهب، أو بمواهب ضعيفة جدًا، وبتقليد لآبائهم الذين كانوا نجوم مرحلة التيه الأسلوبي بامتياز، وجاء أبناؤهم أشد تيهًا.
فيهم من له الصوت الحسن، ومن قد يُحسن إذا تعاهده التعليم، لكن من يبدأ كبيرًا يفسد، لماذا يتعلم والشهرة في يده والجمهور في جيبه والمهللون حوله بالألوف وأجره عشرات الألوف؟! لقد نال كل ما كان يحلم به والجمهور احتفل به على حالته فلن يُغيرها.
هكذا اعتمدت شعبية قراء الوراثة أساسا على جمهور آبائهم، الذي أسرع إلى الاحتفاء بهم عصبيةً لأنهم امتداد نجومه المفضلين، وجمهور محافظاتهم الذي طار بهم عصبيةً جِهويةً، ليقول بملء الفشخرة إن الشيخ فلان من عندنا وبلدياتنا، فهذا أحب إليه من القارئ الكبير القديم، وهكذا.. بلا أي معايير فنية صاروا جميعهم قراء مشاهير، وجابوا أقطار العالم، والناس في البلاد غير العربية، حيث لا مدارس للتلاوة أصلا، يعجبهم أي صوت جميل يقرأ بالطريقة المصرية ويقولون له من أعماق قلوبهم: الله الله، لا يفرقون بين زيد وعبيد ونطاط الحيط.
وقد كان من حُسن حظ هذا الجيل أن أتى والتكنولوجيا سهلت كل شيء، فبينما كان أسعد حظ القارئ القديم أن يجد من يُسجل له حفلة كل عشر حفلات، صار هؤلاء يصورون جميع حفلاتهم فيديو بكاميرات ديجيتال عالية الجودة، وتُرفع على الإنترنت أولًا بأول، وكان هذا من سوء حظهم أيضًا، فالتصوير فضح أجواء السهرات الخالية من كل وقار وأدب في استماع كتاب الله، وفي أدائه أيضًا، والأسوأ من ذلك أنه كشف نوعية الجمهور الذي يحضر سهرات هؤلاء القراء، وأنه جمهور مُسطح وغير واعٍ، ويتفاعل مع القراء تفاعله مع المغنين الشعبيين الذين يستمع إليهم في عصر الفن الهابط والمهرجانات، ولا يشك أحد في أن سبب ردود الأفعال السلبية تجاه جيل الوراثة هو ما كشفته فيديوهاتهم وحدها، ولولاها لغاب عنا أكثر المهازل التي تحدث وما كنا لنراها.

(5)
ماذا بعد؟!
إن أجبنا عن هذا السؤال بناء على ما هو واقع، فإن الإجابة ستكون وخيمة جدًا، ولسنا بحاجة إلى استكشاف وخم أكثر مما وصلنا إليه، فسأجيب عن هذا السؤال بناء على ما نريد لدولة التلاوة من إصلاح، وما نراه ضروريًا للصلاح.

أولًا: لا بد من إحياء لفن التلاوة على الطريقة البارودية، كيف أحيا البارودي الشعر؟
وجد البارودي أن الشعر العربي العظيم كان بين الجاهلية والقرن الخامس الهجري، وأن الشعر بعد ذلك بين القرن السادس وقرن البارودي الثالث عشر كان منحدرًا من القوة إلى الضعف، متوغلًا مع الزمن في الضعف والصنعة المتكلفة، حتى سقط في العصر العثماني إلى قاع مستنقع الضعف.
فقام بحزم وقطعَ سياق الزمن بينه وبين ما قبله، وعاد يستلهم من الشعر العربي الأصيل في عصور قوته قبل ثمانية وتسعة وعشرة قرون، فأتى بالشعر متينًا كما كانوا يأتون به، وأسس له عصرًا من الازدهار متصلًا فنيًا بعصور الجاهليين والأمويين والعباسيين.
المطلوب من القارئ الذي يريد الإصلاح هو هذا بعينه، أن يقطع صلته الفنية بقراء عصور الضعف جميعًا، وأن يعود إلى قراء عصور القوة والازدهار والإبداع، قراء الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، يستلهم منهم ويبني على أصولهم أصول فنه، وخاصة القراء العشرة الكبار الذين كانوا لجمال أصواتهم وعبقرية أساليبهم مع وفرة تسجيلاتهم أركان فن التلاوة العشرة (محمد رفعت – علي محمود – عبدالفتاح الشعشاعي – طه الفشني – مصطفى إسماعيل – أبو العينين شعيشع – كامل يوسف البهتيمي – محمود علي البنا – محمد صديق المنشاوي – عبدالباسط عبدالصمد) وليستلهم من غيرهم من الكبار، وممن بعدهم فيما أحسنوا فيه إن شاء، لكن عليه أن يجعل هؤلاء العشرة إمامه ودليله، وأساسه الذي يأوي إليه، فكما أنه لا أحد يستطيع تقديم شعر الحلي وابن نباتة على المتنبي والبحتري، أو تقديم غناء أنغام وشيرين على أم كلثوم وأسمهان، أو تقديم ألحان هاني شنودة على رياض السنباطي، فإنه لا يليق عقلًا ولا نقلًا ولا فطرة أن يُقدم قارئ ثمانينياتي على القراء الكبار القدامى.

ثانيًا: ضرورة الالتزام بالترتيب المقامي الذي ثبّته الشيخ مصطفى إسماعيل وتابعه عليه أقرانه، فهو الحل الوحيد للخروج من حالة التيه الأسلوبي التي سقط فيها فن التلاوة، ولم يكن لهذا الترتيب قداسة لو توافر القارئ الخبير بالنغم سليم الذوق الذي يستطيع التنقل بين المقامات تنقُّلًا صحيحًا، أما وقد أفضت جميع محاولات التجديد في هذا الترتيب إلى فوضى وعبث وتيه لا يستطيعون الخروج منه، فالعودة إليه واجبٌ حتم، وواجبٌ التأكيد على ضرورة إشباع جواب مقام البياتي في بداية التلاوة والأداء عليه مدة كافية، وضرورة إشباع مقامات الصبا والحجاز والنهاوند التي ألقت بها الفوضى في بحور من الإهمال والنسيان، عند أكثر قراء الثمانينيات والتسعينيات.

ثالثًا: ضرورة تنمية ثقافة القارئ الموسيقية، بالاستماع إلى الطرب القديم والتشبع به، غنائيًا وآليًا، منذ أقدم تسجيلات الموشحات والأدوار حتى يبلغ أم كلثوم وجيلها من الملحنين والمطربين.
فإن الذخيرة النغمية التي تترسب في ذهن السمّيع المُعاشر لتسجيلات الطرب القديم، هي المادة التي يستطيع منها التأليف، والبئر الذي ينزع منه فيُفعم، وهي قبل ذلك الصيقل الذي يجلو ذائقته ويصفيها كالشمس.

رابعًا: عدم الركون إلى التقليد، ولو كان تقليد الكبار، فإن التقليد لا ينتج جديدًا ولا يقدم مبدعًا، وعليه أن يتحايل على التقليد بالاستلهام من عدة قراء كبار حتى لا يقع أسيرًا في مدار واحد منهم، وبالاستلهام من ذخيرته السماعية من التلاوات والتواشيح والطرب القديم والأغاني والمعزوفات، ولا شك أن صاحب الذخيرة السماعية الثرية لا يمكن أن يستمر مقلدًا.

خامسًا: الرشد في استعمال العضلات الصوتية، فالفن الحقيقي شيء مختلف تمامًا عن تلك العضلات، ولو كان الإبداع في التلاوة بطول النفس لكان الغطاسون أعظم القراء.
فعلى القارئ أن يُبدع في المقطع القصير كما يبدع في الطويل، وأن يبدع في القرار كما يبدع في الجواب، وأن يبدع المقطع المفتوح كما يبدع في المقفول، وعليه أن يروض نفسه إذا وجد فيها شهوة لاستعراض العضلات والغطس بالمستمعين.

سادسًا: الحذر من الحذلقة والتفلسف الفارغ والإتيان بالجديد غير المفيد ليقال أتى بجديد، وكلما أثرى ذخيرته السماعية وجد نفسه غنيًا عن مثل هذا وقريبًا من الإتيان بالمستساغ والمستحسن لوفرة مصادره.

سابعًا: عدم الانسياق وراء الجمهور في كل ما يطلب، وضرورة تربية الجمهور وتدريبه بالامتناع أحيانًا كثيرة عما يريد، ليعلم أن القارئ ليس بهلوانًا مستأجرًا يؤدي كل ما يريده الجمهور، خاصة إن كانت التلاوة في مكان يغلب على جمهوره البساطة والسطحية وفساد الذوق السماعي.

القارئ الذي يستطيع الالتزام بهذه السبعة أضمن له أنه سيكون أفضل من قراء الخمسين عامًا المنصرمة ولو كان صوته عاديًا، فإن المعول على جودة الأداء أولًا.
أما الذي لا يرغب في الالتزام بها فالسوق واسع مُرحب به، ويكفيه تهليل الجمهور وأجره الوفير وسفريات إيران وباكستان، لكنني أبين سبيل الإصلاح في حدود ما علمت وعُلّمت، عسى أن يبعث الله لهذا الفن باروديًا يُحيي رسومه وينشر في الناس عرائسه.

Related posts

Leave a Comment