أروع منصب في العالم، للدكتور خالد بن منصور الدريس

بدأت علاقتي بعادة قراءة الصحف اليومية عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي، وقتها كنت مواظبا على مطالعة صحيفتي الجزيرة والرياض يوميا، ومن الشخصيات التي مرت صورته بي عدة مرات مدير إحدى الجامعات، وكعادة الصغار عندما يهتمون بالقراءة التصقت بذهني بعض الأخبار والصور، ونسيتها لكنها لم تنسني، مضت الأيام مسرعة، وتغيرت الأحوال، واستوى عودي، وانتظمت في دراستي الجامعية في جامعة الملك سعود، كنت وقتها أدرس متطلبات جامعية في إحدى الكليات، وأثناء دخولي لها قابلت وجها لوجه معالي الدكتور عبدالعزيز الفدا خارجا من إحدى القاعات ، وكان معاليه قد غادر منصب مدير الجامعة عندما كنت في مرحلة السادس ابتدائي بعد أن قضى عدة سنوات مديرا لجامعة الرياض (الملك سعود)، وكان قبلها وكيلا للجامعة ذاتها.

كانت دهشتي كبيرة كيف لشخص بلغ أن يكون مديرا لأكبر جامعة سعودية وحظي بسلطة عليا ومسؤوليات عظمى، يومها كان يقابل الأمراء والوزراء، ويعمل تحت سلطته الآلاف من الموظفين، يقبل أن يعود ليصبح مدرسا كأي مدرس ؟!

ذهب يومي كله في التفكير في ذلك، وحينها وصلت إلى قناعة أن منصب الأستاذ الجامعي أروع منصب في العالم، ولو لم يكن كذلك ما رجع الأساتذة لمهنتهم وقد شغلوا مناصب إدارية كبرى فيها كل أشكال السلطة والأبهة والنفوذ.

في تلك الأيام وأنا طالب جامعي صغير نبتت في نفسي أمنية أن أكون أستاذا جامعيا، أعود للتعليم مهما توليت من مناصب و مراكز قيادية، من لحظتها أكبرت هذا المنصب وأحببته كأشد ما يكون الحب، فالجنرالات لا يعودون جنودا، والمدراء لا يعودون موظفين، وحدهم أساتذة الجامعة يفخرون بمهنتهم مهما ارتقت بهم الرتب والدرجات الوظيفية.

⚜ وبمضي الأيام ومرور السنوات شاهدت معالي الدكتور علي النملة وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق وهو يمشي في أروقة الجامعة ممشوق القامة مبتسما يحاور ويناقش مع زملائه وطلابه سعيدا بمهنة الأستاذ الجامعي، وهو الذي كان وقتها قبل سنوات ليست بالطوال وزيرا متميزا يملأ السمع والبصر، وكذا الرئيس الأمريكي كلينتون بعد أن غادر منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وهو أقوى منصب سياسي في العالم؛ عاد ليلقي المحاضرات في الجامعات، وعدد من كبار المسؤولين العالميين ممن كانوا أساتذة في الجامعات وتولوا مناصب عليا وقيادات عظمى ما إن تنتهي مدة ولايتهم إلا ويعودون لجامعاتهم وقاعات الدرس ومناقشة الأطروحات والمشاركة في الندوات والمؤتمرات وكتابة البحوث وتحكيمها .

ومن اللافت للنظر أن بعض الزعماء والملوك قديما ممن كانت تحت أيديهم أكبر السلطات وأقواها تمنوا منصب الأستاذية وما يتصل به في معناه.

فقد قال السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء :
“ومن الخلفاء من اشتهى أن يعقد مجلس الإملاء لنفسه ورغب في ذلك.”

وأسند عدة قصص منها :

أن أبا جعفر المنصور، سئل: هل بقي من لذات الدنيا شئ لم تنله ؟
قال: بقيت خصلة أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث فيقول المستملي من ذكرت رحمك الله؟
قال: فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر.
فقال: لستم بهم إنما هم الدنسة ثيابهم المتشققة أرجلهم الطويلة شعورهم برد الآفاق ونقلة الحديث.

❄ وقال الخليفة العباسي المأمون: ما أشتهى من لذات الدنيا إلا أن يجتمع أصحاب الحديث عندي ويجئ المستملي فيقول من ذكرت أصلحك الله؟!

❄ وعن القاضي يحيى بن أكثم قال قال لي هارون الرشيد:
ما أنبل المراتب ؟
قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين
قال: فتعرف أجل مني ؟
قلت: لا
قال: لكني أعرفه، رجل يقول في حلقة: حدثنا فلان عن فلان !
قال:خير منك وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي عهد المسلمين؟!
قال: نعم ! ويلك هذا خير مني لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يموت أبدا،
نحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر !

فأي منصب أرفع وأروع من منصب الأستاذ، ويكفي المؤمن أن التعليم هو وظيفة الأنبياء ومهمتهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت معلما) .. فلا غرو أن يتمنى الخلفاء تحصيل ذلك المنصب الرفيع، ولا غرابة أن يعود الأستاذ الجامعي لمهنته بعد أن يغادر كرسي الوزارة أو الإدارة ..

فلا عطر بعد عروس !

❄❄❄❄❄❄‏

Related posts

Leave a Comment