الحسانى حسن عبد الله فى الثمانين، لأحمد عبد المعطي حجازي

أكتب لكم اليوم عن شاعر لا يتمتع بشهرة واسعة. ويكاد حتى يكون مجهولا، رغم أنه اليوم فى الثمانين من عمره، وأنه مع عدم معرفتنا إياه شاعر حقيقى. وهى صفة أفضلها على غيرها فى هذه الأيام التى انتشرت فيها الصفات المجانية.

والصفة المجانية هى التى تخلع على موصوف لا رصيد له فى الفن الذى ينتمى له، أو أن رصيده فيه محدود متواضع، لكن المؤسف أننا خاصة فى هذه الأيام لا نعرف الشاعر أو الكاتب بما يقول، وإنما نعرفه بما يقال عنه. والطريق إذن إلى الشهرة سهل ميسور. ما على طالبها إلا أن يعرف الذين يحررون الأخبار فى الصحف اليومية، وأن ينال رضاهم بطريقة أو بأخرى ليصبح شاعرا معروفا، ليس هذا فحسب، بل يتجاوز هذه الدرجة المتواضعة ويسمى شاعرا كبيرا.

ولاشك أن لدينا شعراء كبارا، بمعنى أنهم شعراء حقيقيون لهم مكانهم ولهم دورهم. لكن هؤلاء لم يصبحوا شعراء حقيقيين إلا لأنهم يفضلون الشعر على الشهرة ويكتفون به فلا يطلبون اعترافا من أحد ولا يشعرون بالحاجة إلى هذا الاعتراف، لأن استغراق الشاعر الحقيقى فى لحظات ابداعه وهى لحظات متواصلة يملأ كيانه ويصرفه عن طلب أى شيء خارجه. لقد تحقق له ما أراد وخرجت واكتملت. فإذا قرأها الناس وتذوقوها وأحالوها مكانها الذى تستحقه فبها ونعمت وإلا فالقصيدة التى ينظمها الشاعر الحقيقى ويرضى عنها هى خبزة كفافه وهى جائزته الكبرى.

لا أقول إن الشاعر الحقيقى يكره الشهرة أو يرفضها. ولاشك فى أنه يسعد بها ويغتبط، لكنه لا يسعى إليها من البداية، ولا يلهث وراءها. وإنما يؤخرها لما بعد كتابة القصيدة ويجعلها جوابا منطقيا على ما قدمه فى الحوار الذى لابد أن ينشأ فى البيئات الحية بين الشاعر والقارئ.

إن الشعر وإن كان ابداعا صادرا عن طرف معين هو الشاعر ليس ملك الشاعر وحده، لأنه لغة مشتركة نصيب القارئ فيها ليس أقل من نصيب الشاعر الذى لا ينظم قصيدته من فراغ ولا يعتمد فيها على موهبته وحدها، وإنما يصدر قبل كل شيء عن تراث قومى مملوك للجميع الذين يتعاملون معه كل بطريقته. فالشاعر يستلهمه ويعيد انتاجه ويضيف إليه. والقارئ يتربى عليه ويعود إليه ويستدعيه حين يقرأ ما ينظمه الشعراء ويعبر عن انطباعه إزاءه وعن رأيه فيه بطريق مباشر إذا استطاع، أو عن طريق الناقد الذى يمكن أن نعتبره المتحدث بلسان القراء وحلقة الوصل بينهم وبينه. وعلى هذا النحو يدور الحوار إذا كانت البيئة نظيفة، والثقافة حية، والمقاييس واضحة مقنعة.

ولست أظن أن هذه الشروط متوافرة لدينا فى هذه الأيام. فالنخبة التى لا يمكن أن تستغنى عنها جماعة فى نشاطها القومى لأنها هى التى تبلور المطالب وتضع المقاييس وتدير الحوار بين الأطراف المختلفة هذه النخبة الرائدة لم يعد لها وجود مؤثر عندنا فى هذه الأيام التى انفرط فيها العقد وأصبح كل طرف يعمل بمفرده ويتكلم لغته أو رطانته ويفعل ما بدا له فى ساحته ويفرض وجوده على الآخرين بقدر ما يتاح له من قدرات مادية وإمكانات. وهكذا يصحو الناس فيجدون فلانا شاعرا كبيرا لأن اسمه يتردد، وأن علانا فنان عالمى لأن الطائرة حطت به فى عاصمة دولة أجنبية، وأن هؤلاء وهؤلاء أساتذة ودكاترة تسبق الدالات أسماءهم دون أن نعرف أى شيء عما قدموا ليحصلوا على كل هذه الدالات؟!

وقد آن لنا أن نخرج من هذه الفوضى الهزلية وأن نعود إلى الحق ويحكم على الشاعر أو الكاتب أو المغنى بما يقوله ويقدمه، لا بما يقال عنه أو يقوله عن نفسه، وإلا فهذه الصفات التى تخلع على هذا وذاك كذب وإرهاب يقصد به الإجبار على التسليم ومنع النقد وإفساح الطريق للتهليل والتكبير والتزمير.

وهل يمكن أن يكون الشاعر صغيرا حتى يمكن أن يكون كبيرا؟ لا، فالشاعر الصغير هو الدعى الرديء المزيف. وهذا لا يجب أن ينظر إليه أو يحسب حسابه، ولا يجب بالتالى أن يكون المقابل هو الشاعر الكبير، وإنما المقابل هو الشاعر الحقيقى. وأنا أحدثكم اليوم عن شاعر حقيقى هو الحسانى حسن عبد الله. وخير ما أبدأ به فى حديثى عنه شعره. ولتكن البداية هذه القصيدة:

كن صديقى يا شعر!

انى تناءيت غريب الأسى. وقلَّ صديقي!

لبِّ شوقا إذا ارتوى عاد يصبو

فأنا واحدٌ، وألف مشوقِ

لم أزل عاشقا سماءك حتي

دربت أجنحى على التحليق

فتساميت لم يبال تسامى حشودا

تطامنت للنعيق

والتقينا التقاء حر بحر

كرها العيش فى ديار الرقيق

يا رفيقي! إن الصغار استبدوا

فأعنى على البلاء المحيق

لبِّنى، إن فى ضميرى رياحا

طلبت صهوة الفضاء الطليق

أنظر الساحة العظيمة تخلو

من بينها العظام، لا يا رفيقي

بدأت رحلتى إلى مطلع النور

فصبرا على صعاب الطريق

السنا المستفيق يعلو رويدا

ليتنا نشهد استواء الشروق!

فى هذه القصيدة لا يصف الشاعر حاله وحده، وإنما يصف أحوالنا جميعا. ولعلكم لاحظتم توارد الخواطر فيما تقوله القصيدة وما قلته فى السطور السابقة. ولقد آثر الشاعر الاعتزال لأنه يرى ما لا يراه غيره. فهو لهذا غريب الأسى وحيد لا صديق له. لكنه ليس وحيدا فقط ولكنه واحد، أى متفرد. واحد بشخصه لكنه كثير بأشواقه. ولهذا يلجأ للشعر يطلب صداقته ويسمو إليه ويحلق فى سمائه وينظر من عليائه فيجد أن الصغار استبدوا، وأن الساحة خلت من أبنائها العظام الذين عرفهم وصحبهم وتتلمذ على أيديهم فيشعر بالألم ولا يجد العون إلا فى الشعر، ولا يرى إلا أنه قد بدأ رحلته إلى مطلع النور وأنه سوف يواصلها مهما تكن الصعاب.

وهذه القصيدة هى إحدى قصائد ديوانه الأول «عفت سكون النار» الذى كان فيه متأثرا كما يبدو بالرومانتيكيين الذين تغنوا بآلامهم وبحثوا عن السلوى فى الشعر ووجدوا فى بحر الخفيف بالذات رحابة واستجابة شجعتهم على أن يودعوا فيه أسرارهم كما نرى فى عدد من قصائد على محمود طه «مولد شاعر» و»غرفة الشاعر» وفى قصيدة الشابى «صلوات فى هيكل الحب»، وفى قصيدة الهمشرى «إلى جتا الفاتنة».

لكننا نحتاج هنا لأن نعرف شيئا عن حياة الحسانى حسن عبد الله، لأن شعره لم يكن بعيدا عن حياته، ولأننا سنقترب من شعره أكثر إذا عرفنا ما يمكن أن نعرفه عن شخصه.

>>>

الحسانى حسن عبد الله ولد عام 1938 فى قرية «الكرنك» بمحافظة الأقصر. والتحق بعد حصوله على التوجيهية بكلية دار العلوم، وتخرج فيها عام 1959 ثم حصل على دبلوم معهد الدراسات العربية، وعلى الماجستير وكانت عن «فلسفة الجمال عند العقاد» الذى تعرف عليه الشاعر وأصبح من أخلص تلاميذه له كما تعرف بعد ذلك على المحقق المعروف محمود محمد شاكر. وفى تلك المرحلة بدأ ينشر مقالاته وقصائده. ثم عين سكرتيرا لتحرير مجلة «المجلة» التى كان يرأس تحريرها يحيى حقى.

وفى عام 1972 أصدر ديوانه الأول، وقام بتحقيق عدد من كتب التراث منها «الكافى فى العروض والقوافى» للخطيب التبريزى، و»شفاء العليل» لابن قيم الجوزية. أما آخر انتاجه فهو ديوانه الثانى «من وحى الوافر» الصادر فى العام الماضى. لنقرأ معا من هذا الديوان قصيدته التى سماها «مناجاة للمتنبى» التى يواصل فيها ما بدأه فى قصيدته السابقة، لكن على نحو مختلف يتجاوب فيه مع المتنبى وشعره:

أيها الحالم العظيم

تذكرتك لما لم ألف حولى خلا

هبط الليل، أين منى بواد

جزتها كالشهاب يا نجم ليلا

ما الذى كنت تبتغي؟ ما خبي

أبت النائبات أن يتجلي

هبط الليل فا دكرتك أمسا

قيل: ولى، وقلت: لم يتول

وأنا مهمل كزق رياح

ليس عندى إلا عسى ولعل

ولو أن الأحجار تعقل فجت

فجوة فى الجدار كى أتدلي

لتلاقى خيلى ورجلى، وقد عاد إلينا التتار

خيلا ورجلا

أفهاذ أنا؟! تقول قوافيك

لمن آثروا السلامة: كلا

ضل باغى النجاة بالجبن ضلا

كلنا فى نهاية الشوط قتلي!

هبط الليل فا دكرت بلادي

ولسانى وخنجرا مستلا

يستعين الدجى ليبقر عمدا

أمة بالكواكب الزهر حبلى

خدعتها ريح الشمال فباتت

فى الهواء العليل تنشق سلا

قطعة قطعة تخور قواها

أيما حينة وحينا ثكلي

شغلتها عن المصير أهازيج

وسوق تضج زمرا وطبلا

ورجال صلت وصامت وقالت

فى طمأنينة وجدنا الحلا

قلت هاكم كتابنا فاقرأوه

إنما البر أن تكونوا أعلي

هبط الليل، بيد أن صباحا

فى قوافيك لايزال مطلا

وسينداح أنبأتنى ضلوعي

أن سينداح فى ضحى لا يبلي!

>>>

سنلاحظ أولا أنه يبدأ القصيدة بالحديث عن شعوره الأليم بالوحدة والانقطاع وطلب الصديق كما فعل فى قصيدته السابقة. ونلاحظ بعد ذلك أنه نظمها فى بحر الخفيف الذى نظم فيه القصيدة السابقة، وبينهما سنوات عديدة، أى أن شعوره بالوحدة والوحشة شعور مقيم. فالوحدة التى يفضلها على جلساء السوء تريحه من ناحية وتؤلمه من ناحية أخرى. لكنه يسرى عن نفسه بتذكر المتنبى ويرى نفسه شبيها به أو قريبا منه. لأن ضلوعه أو شعوره أو وعيه الباطن ينبئه بأن الظلام سينداح. وهو يتنبأ كما فعل المتنبى الذى ادعى النبوة فى بادية الشام وتبعه كثيرون من بدو المنطقة. والمتنبى لم ير نفسه نبيا فحسب، بل رأى نفسه أميرا كذلك أو ملكا:

وفؤادى من الملوك،

وإن كان لسانى يرى من الشعراء!

والحسانى وهو يتحدث عن الليل الذى هبط يتذكر ليالى المتنبى الطوال ورحيله الدائم يخترق البادية ويجتاز الحدود كالشهاب، ويتحدث مثله عن خيله ورجله، ويكاد يقول عن نفسه ما قاله المتنبى عن نفسه:

أى تحل أرتقى؟

أى عظم أتقى؟

وكل ما خلق الله

وما لم يخلق

محتقر فى همتي

كشعرة فى مفرقي!

فإذا نظرنا فى لغة القصيدة فسوف نرى أنها لغة مختارة بعناية كما يفعل الحسانى فى كل شعره. المفردات، والجمل، والصور، والتنقل باقتصاد بين العبارات المستخدمة فى الفصحى الحديثة والعبارات المأثورة، مع شيء من الزهو يغريه أحيانا باستخدام النادر الذى يبتعد به عن الشائع المتداول دون أن يسرف فى استخدام المهجور. فهو مفتون بالتراث يصدر عنه دون أن يقع فى التقليد المباشر متمثلا فى هذا بقول المتنبى وهو يمدح سيف الدولة بما يصدق عليه هو أكثر ربما مما يصدق على ممدوحه:

يمشى الكرام على آثار غيرهمو

وأنت تخلق ما تأتى وتبتدع!

باختصار، الحسانى حسن عبد الله شاعر حقيقى مثقف يستحق أن نقرأه ونعرفه ونحبه، دون أن يمنعنا هذا من أن نختلف معه، خاصة فى بياناته التى أعلن فيها الحرب على الشعر الحر. وربما عدنا لمناقشة ما قدمه فى هذه البيانات.

Related posts

Leave a Comment