هل حجب البحث الإعجازي فكرة الإيقاع في القرآن، لعبد اللطيف الوراري

أثرت نظرية الإعجاز في بحوث اللغة والبلاغة والنقد، بحيث تمحورت الجهود حول إثبات الخصائص الذاتية للنص القرآني، باعتباره نصا مُعْجزًا، إلا أن عبء البحث الإعجازي كان ظاهرًا على مقولات الفكر الشعري، وبالأخص مقولة الإيقاع؛ وذلك لمّا بدأ جمهور العلماء ممن يُنعتون ببلاغيي الإعجاز، بمن فيهم الباقلاني وعبدالقاهر الجرجاني، ينظرون إلى بلاغة الإعجاز بوصفها البلاغة التي تضمن تفوق القرآن، وتقصي كل العناصر التي تجلى فيها الخطاب البشري، أو ظهرت له فيه أنساقٌ متميزة مثل «الوزن». فهم كانوا يُقرون بكون القرآن معجزًا؛ أي «جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمنًا أصح المعاني» كما يقول أبو سليمان الخطابي، وهو ما تعذر على البشر الإتيان بمثلها، ومُجاوزًا أساليب كلام العرب في نثرهم وشعرهم. لا هو نثْرٌ ولا هو شعر. هذا الاسم لم يكن حتى كان، بتعبير الجاحظ.
http://www.alquds.co.uk/?p=949804

لقد بدا لبلاغيي الإعجاز ما لنهايات الآيات القرآنية أو مقاطعها من قيمة، ومن وظيفة حيوية في إبراز الشكل الفني والجمالي للعبارة القرآنية، وعدوا ذلك من الخصائص المميزة لأسلوب النص القرآني. هكذا، بحثوا خاصية السجع الذي نفوه عن القرآن نفيًا ظاهرًا، وقد سماه كثيرٌ منهم – لاسيما من الأشاعرة- فواصل، محتجين بقوله تعالـى: «كِـتَابٌ فُـصـلَت آيَاتُـهُ»، مثلما احتجوا بأن الرسول الكريم نفسه قد نهى عنه. لقد أرادوا بتسميتهم السجع فاصلةً تمييز القرآن وتشريفه عن مشاركة غيره له في التسميات، وعللوا بكون الفواصل تعكس مطلقًا، لا ضرورة معها للحديث عن ذريعةٍ فنية، بخلاف القوافي في السجع أو في الشعر، التي لا تعدم مواقف الاضطرار بحكم انتظامها وفق معايير موجودة سلفًا.

إيقاع المناسبة

إذا كان البحث الإعجازي قد شوش على فكرة الإيقاع، فإن هناك جهودًا أخرى ستعمل على إطلاق قيم هذا الإيقاع في القرآن، من خلال ما سمي بـ«علم المناسبة»؛ فقد بدا لبلاغيي الإعجاز ما لنهايات الآيات القرآنية أو مقاطعها من قيمة، ومن وظيفة حيوية في إبراز الشكل الفني والجمالي للعبارة القرآنية، وعدوا ذلك من الخصائص المميزة لأسلوب النص القرآني. ويكون إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل بتأخير ما أصله أن يُقدم، أو إفراد ما أصله أن يُجْمع، أو جمع ما أصله أن يُفرد، أو تثنية ما أصله أن يُفرد، إلى غير ذلك من أوجه الخطاب، ويكون لكل وجهٍ خطابي لهجته وأثره الإيقاعي الذي يُساهم «في اعتدال نسق الكلام، وحسن موقعه من النفس تأثيرًا عظيمًا» بتعبير الزركشي.
لقد وجدوا أن ثمة عُدولًا يشمل بنية الكلمة في اشتقاقها أو صياغتها أو حروفها تبعًا لإيقاعية الفواصل، وإن لم يُخْفِ ذلك خلافًا طبيعيا بينهم في حدود هذا العدول وإمكانات تأويله. يقف ابن قتيبة في موقف التضييق، بينما يميل الفراء، ومعه الزركشي وابن الصائغ والسيوطي، إلى توسيع مجال التأويل، بإدراج سماتٍ أسلوبية أخرى ترِدُ مراعاة للفواصل، من مثل الحذف والتقديم والتأخير وسواها. فلُوحظ ائتلاف الفواصل مع ما يدل عليه الكلام، لكن هذا الائتلاف يرتد إلى محور المعنى ومدى تعلقه بالغرض ومقتضى الحال.
ودرءًا للخلاف والتكلف المبالغ به في المناسبة، عمل بعض العلماء على التنبيه إلى بعض الضوابط التي ينبغي أن تلتزم بها في القول بها، من ضمن ذلك «الغرض الذي سيقت له السورة» وما يحتاجه من «المقدمات» ومراتبها في القرب والبعد من المقصود. وقد تم هنا استدخال التأويل النفساني في القبول بالمناسبة من عدمه، بحيث إن معيار الطبع والتكلف في إثبات المناسبة بين الآي والسور، إنما يرجع، أساسًا، إلى مدى التماثل والتقارب، أو البعد والتنافر بين المعاني والأغراض، فإنْ تماثلت وتقاربت وارتبط أولُها بآخرها، كان التناسب مقبولًا، وإن تنافرت وتباعدت فلا تناسُبَ إلا إذا كان بطريق التمحل والإغراب: «المناسبة أمرٌ معقولٌ إذا عُرِض على العقول تلقتْه بالقَبول». ويزيد البقاعي على ذلك بأن يجعل الإعجاز موقوفًا على تحقيق المعنى، وبخلافه يُشكك المرء ويُزلزل إيمانه، فقال: «إن كل من سمع القرآن من ذكي وغبي يهتز لمعانيه، وتحصل له عند سماعه روعة بنشاط ورهبة، مع انبساط لا تحصل عند سماع غيره، وكلما دقق النظر في المعنى عظم عنده موقع الإعجاز»، وإذا رأى أن الجمل متباعدة الأغراض ومتنافرة «حصل له من القبض والكرب أضعاف ما كان حصل له بالسماع من الهز والبسط ربما شككه ذلك وزلزل إيمانه».
إن لتناسب الفواصل أثرًا جليا في بناء الخطاب، لما يتداخل اللفظ والمعنى والإيقاع في خدمة الدلالة المقصودة من الخطاب، بيد أن تغيير نسق الخطاب لا يكون لمراعاة الصوت، وإنما يكون التغيير لها ولشيء غيرها يصاحبها من المعنى المراد لذاته. وهكذا، فقد اتضح من الأول أن فضل الفاصلة هو الإفهام وإبراز الغرض المقصود، ولا غنى عنها لنظم الكلام وإجلاء المعنى، عند علماء القرآن والمُفسرين على حد سواء.

«ورتل القرآن ترتيلا»: الوقف والصوت الحسن

أولى العلماء التجويد والقراءات اهتمامًا واضحًا ببناء الفواصل والآي، وتحسين حروفها، بحسب انتقالات سلسلة الكلام، ووضعياته الحالية التي يَرِد فيها أو يُحْدثها أكثر من أسلوبٍ وتطريزٍ وفعلٍ كلامي. فمثلما أثارَ الغناءُ انتباه العرب إلى الإيقاع في الشعر، أثار التجويد والقراءة بالترتيل انتباههم إلى الإيقاع في القرآن، عندما شعروا بالتنظيم الزمني يخترق لغة الكلام ويُقطعه متوالياتها وفق مقادير متناسبة أو متقاربة في الكمية. وهكذا اعتنت كتبهم في علمي التجويد والقراءات بالأداء، وبضبط سمات الأداء الشفَهي الصوتية والتطريزية، وبدراسة مخارج الحروف وصفاتها وما ينشأ من أحكامٍ عند القراءة بما لا يُوقع في اللحن؛ فوضعت جُملةً من القواعد التي تُشكل ما يُسمى بـ«الصوْت الحسن»، فيما هي تُشدد على البعد الإيقاعي في القراءة بالترتيل، حتى أن ابن الجزري (ت833هـ) نعت التجويد بأنه «حلية التلاوة وزينة القراءة». وأهم هذه القواعد: الاسترسال وهو تمديد الصوت بدون انخفاضه؛ والترخيم وهو لذة الصوت بدون الذهاب بالتنغيم، والتفخيم وهو تسمين الصوت، وتقدير الأنفاس وهو مراقبة التنفس، التجريد وهو الانتقال من صوت قوي إلى صوت ضعيف، والعكس بالعكس.
باعتباره المَفْصل والدال الرئيس في إيقاع الفواصل ومُناسبتها، وفي تجويد الحروف من معرفة الوقوف عليها وإعطائها مُستحقها من الصفات الذاتية والعرَضية، عُني العلماء بالوقف، وحددوه بأنه قَطْع النطْق أو الصوْت أو الكلمة، وربطوه بـ«انقطاع النفس» اضطرارًا أو اختيارًا للاستراحة، أو بمراعاة حال المعنى. ويرده أبو يحيى الأنصاري إلى المواضع التي نَص عليها القُراء، فكل موضع منها يُسمى وَقْفًا، حتى وإن لم يقف عنده أحدهم، ويقول: «والناس مُختلفون في الوقف، فمنهم من جعله على مقاطع الأنفاس، ومنهم من جعله على رؤوس الآي، والأعدل أَنه قد يكون في أوساط الآي وإن كان الأغلب في أواخرها، وليس آخر كل آيةٍ وَقْفًا، بل المعاني معتبرة والأنفاس تابعة لها».
وللوقف علاقة بالتركيب وإنتاج الدلالة، ولهذا استحسنوا منه ما بدا تعلقُه باللفظ والمعنى، إذ هو يُقطع سلسلة الكلام ويُفرق بين المعاني لأمن اللبْس، ومن ثمة تكون وظيفته مُوجهة للتأثير والإفهام. فالقارئ إذا قرأ عليه «أن يتفهم ما يقرأه، ويشغل قلبه به، ويتفقد القطع والائتناف، ويحرص على أن يُفْهِم المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وَقْفُه عند كلامٍ مُسْتغنٍ أو شبيه، وأن يكون ابتداؤه حسنًا». لقد أُسْنِد إلى الوقف وظيفة تنظيمية للخطاب، بحيث أنه يُرتبه ضمن سلسلة تُراعي التركيب والدلالة، مثلما أُسْند إليه وظيفة إيقاعية تتمثلُ في صِفَته وسيلة صوتية – تطريزية يلجأ إليها القارئ/ المُقرئ للفصل بين أجزاء سلسلة الخطاب وتقطيعها وفق مُحدداتٍ نظمية ودلالية وحالية تتغير بتغير المنحنيات التنغيمية فيه من جهة، ومن جهة أخرى لتعميق الحس النفسي والإيقاعي بها. فعلاوةً على أقسام الوقف التي ذكرها العلماء وتداولوها بالشرح، لاعتبارات تتعلق باللفظ والمعنى ومقتضى الخطاب، هناك «الوقف الترنمي»، وهو «كالوقف على نحو: أقلي اللوْم عاذل والعتابا، بالتنوين ويُسمى تنوين الترنم». استعمل القرآن في الفواصل حروفًا ذات وقع نغمي ووضوح سمعي لتظهر للسمع حين الوقف عليها، والوقف على أواخر الآيات من سنن القراءة كما هو معلوم، ولذلك استعمل النون فاصلة في حوالي 51٪ من آياته ، تلتها الميم بحوالي 12.5٪، وهما أهم حروف الترنم في العربية ، في حين لم يستعمل الخاء فاصلة قط لصعوبتها وصعوبة الوقف عليها. يقول سيبويه (ت180هـ): «أما إذا ترنموا – أي العرب- فإنهم يلحقون الألف والواو والياء؛ ما يُنون وما لا ينون؛ لأنهم أرادوا مد الصوت»، وزاد: «وإذا أنشدوا ولم يترنموا: فأهل الحجاز يدعون القوافي على حالها في الترنم! وناسٌ من بني تميم يبدلون مكان المدة النون». ومن حكمة ذلك – في ما يرى سيبويه – «وجود التمكن من التطريب» عند القراءة، لما كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون»، فإن ذلك أَعْوَن على حفظه والتأثر به.
عدا بيان الفواصل، فما يُسْتفاد من الترنم أساسًا هو تحسين الصوْت، لأن «من جملة تحسينه (أي القرآن) أن يراعي فيه قوانين النغم، فإن الحسن الصوت يزداد حسنًا بذلك، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه». يربط القسطلاني ذلك بالتأويل النفساني، بتأكيده: «أن النفوس تميلُ إلى سماع القراءة بالترنم، لأن للتطريب تأثيرًا في رقة القلب، وإجراء الدموع، لأن ذلك سبب الرقة، وإثارة الخشية، وإقبال النفوس على استماعه». ورغم اختلاف وجهات نظر العلماء في جواز القراءة بالألحان، إلا أنهم أجمعوا على تحسين الصوت أثناء القراءة، وقدموا عندهم حسنَ الصوْت على غيره. وكان ابن الجزري قد أثبت «أن الألفاظ إذا أجليت على الأسماع في أحسن معارضها، وأحلى جهات النطق بها، حسبما حث رسول الله (ص) بقوله: «زينوا القرآن بأصواتكم»، كان تلقي القلوب، وإقبال النفوس عليها بمقتضى زيادتها في الحلاوة والحسن».
يستلزم تحسين الكلام وتجويده أن تُخْرج الحروف من مخارجها وتعْطاها صِفاتُها المستحقة الثابتة والعَرَضية إفرادًا وتأليفًا، سواءٌ من الحروف من المهموسة والمجهورة، أو من المفخمة والمرققة، وهو مما تحدث عنه العلماء وتوسعوا فيه، بمن فيه ابن جني الذي ربط بين الوقف وإيقاع الحروف الموقوف عليها، فوجد ما يعقبها من من صًوَيْت ونفخة بحسب الأوضاع، قائلًا: «.. وذلك لأن من الحروف حروفًا إذا وقفتَ عليها لحقها صُوَيْت ما من بعدها، فإذا أدرجتها إلى ما بعدها ضعف ذلك الصويْت، وتضاءل للحس، نحو قولك: اح، اث، اف، اخ، اك، فإذا قلت: يجرد ويصبر ويسلم ويثرد ويفتح ويخرج، خفيَ ذلك الصويت وقل، وخف ما كان له من الجَرْس عند الوقف عليه». وهكذا يجوز في نظره أن تُمد الحروف الموقوف عليها بالهاء حتى تمتد في السمع ولا تضعف، فيصير للوقف مظهرٌ إيقاعي جلي بتطويله المدود ومدهن في الزمن، مما يترتبُ عليه تنغيم تنغيم الوحدة/ الفاصلة الموقوف عليها ونبرها بقوة. يقول ابن جني: «.. وذلك أنك لما أردت تمكين الصوت وتوفيته ليمتد ويقوى في السمع ـ وكان الوقف يضعف الحرف ـ ألحقْتَ الهاء ليقع الحرف قبلها حَشْوًا، فيبينُ ولا يخفى. ومع ذلك فإن هذا الصوت اللاحق للفاء والسين ونحوهما إنما هو بمنزلة الإطباق في الطاء، والتكرار في الراء، والتفشي في الشين، وقوة الاعتماد الذي في اللام». بناءً على ميزان العَروض الذي هو «عيار الحس وحاكم القسمة والوضع»، يعد ابن جني الحرف الموقوف عليه والصويت على السواء حرفًا واحدًا بما في ذلك حرف الراء التي تجري مجرى الحرفين في الإمالة. ذلك بما لا يُوقع المقرئ في اللحن وهو يُعطي «كل حرف حقه غير زائدٍ فيه ولا ناقص منه، المتجنب عن الإفراط في الفتحات والضمات والكسرات والهمزات.. وتطنين النونات وتفريط المدات وترعيدها، وتغليظ الراءات وتكريرها، وتسمين اللامات وتشريبها الغُنة..».
من تحسين الصوت إلى تجويد حروف الكلام ببعض المحسنات البديعية من ازْدواجٍ ومُزاوجةٍ ومُجانسةٍ بين القرائن، يُصنع الإيقاع مُنْسربًا في توالي الفواصل، بين الصعود والهبوط والحدة والثقل من جهة، ويجعل الإيقاع تنظيمًا لمعنى الخطاب ومقتضى أحواله من جهة ثانية. فليس هم القراءة بالترتيل هو الترنم وتطريب السامع، بل لغاية شَد انتباهه إلى فحوى الخطاب حتى يتدبر معناه ويعتبر به.
هذه الإيقاعية الكامنة في القرآن لا يمكن تحريرها وإطلاق طاقاتها إلا لحساب المعنى، إذ كل ظاهرةٍ تطريزيةٍ تنغيمية تُوقِف تحسين الأداء الصوتي وتوقيعه على ما تم معناه من حروف القرآن. فالقراءة بالترتيل، إذن، يجب أن تُناسب وضعيات الخطاب القرآني من معاني الوعد والوعيد، والأمر والنهي، والترغيب والترهيب وما سوى ذلك. ولا تعدم القراءة «طيب النغمة ولحن القراءة» كما يقول إخوان الصفا، حتى بالنسبة لتلك المعاني المُقررة بالغ الأثر في نفوس المستمعين.

Related posts

Leave a Comment