أم أشرف، للدكتور محمد الخازمي

سافرتُ إلى القاهرة وقد عقدتُ العزم على التسجيل في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، كانت شهرةُ الكليّة قد ملأت نفسي، وذكرُها في جامعة قاريونس -حيث درست الليسانس- يملأ السمع والبصر، وأغلب أساتذتنا لهم بها صلة، بل إنني عرفتُ –بعدُ- أنّ منهجنا في الدراسات العليا كان مأخوذا منها، وممّا يرغّبُ في هذه الكلية أنّهم –وقتَها- لم يكونوا يشترطون(التوفيل) للتسجيل، مع أنّ هناك صعوبة في قبول الموضوعات، ولهذا السبب الأخير عزف عنها بعض زملائنا ممن سبقونا إلى القاهرة.

وصلتُ أولا إلى مكتب أ.د. أبي همّام عبد اللطيف عبد الحليم، وكانت قد قرأتُ شيئا من كتبه، واستشرت بعض الأساتذة الذين التقيتهم في الكلية فأشاروا بأن أبدأ به، فلم أذهب إليه حتى قرأت كتبه جميعها التي وجدتها في مكتبتي دار العلوم، وجامعة القاهرة، ثم عرضتُ عليه موضوعي، وكنت أظنّ أنه سيلاقي منه القبول الحسن، فرحّب به، وأعجبته فكرة دراسة الآخر عند الديوانيين غير أنّه رأى أنّ أدبَ ليبيا أحقّ بجهدي، قال لي:
– يا بني، أتوسّم فيك نجابة، وأدبكم لا نعرفه، وشعراؤكم لا ينالون حظّهم من الدراسة النقدية، فاجعل (آخرك) هذا عنهم.
– قلتُ: لست محيطا بأدبنا، ولا وجهّتُ له جهدي قبل، ولا أعرف إن كان هذا العنوان يوافق مضمون الأدب في ليبيا.
– قال: بالفكرة التي شرحتَها عن مفهومك لهذا المصطلح، ستجد بالتأكيد صدى، وهي فرصة لتكوين نفسِك عن بلدك، فتوكّل على الله.
أخذتُ برأيه المبارك، وغيّرتُ خطتي بما يناسب العنوان الجديد، ثم جئته، فاستقبلتني أم أشرف، وهناك يسمّونها (الدادة)، وأم أشرف: سيّدة فضلى، تقوم على خدمة قسم الدراسات الأدبية في دار العلوم، وهو في الدور الثالث من الكلية، بيدها مفاتيح مكاتب الأساتيذ، وهي التي تنظفها، وتأتي بالماء لشرابهم، وتحضِّر لهم الشاي، وتحفظ الأمانات، وإذا أمر رئيس القسم بتوزيع خطّة بحث على أعضاء هيئة التدريس كانت هي من تضع أمام طاولة كل أستاذ نسختَه، وقد رأيتها تعين أستاذنا الدكتور الطاهر مكّي في حمل بعض الكتب، وتقوم على خدمتهم جميعا، وقد كانوا يكرمونها ويجلّونها، ويبرونها أيضا بوجوه البر.
كانت أم أشرف تُجلّ أبا همام –رحمه الله- جدا، وتحبّه، وفي أبي همّام روح أبويّة يحيط بها طلّابه، و ربما خاطبهم كما يخاطب عمدة القرية في الصعيد بعض أبنائه، من غير فظاظة ولا كراهة، وما أنْ رأتني أنتظره حتى قدّمت لي كرسيًّا، وجاءتني بشايٍ في كوب مصريٍّ كبير، ونحن في ليبيا نشربُه في أكواب صغيرة جدا، ونشربه ثقيلا، وفي مصر يجعلونه خفيفا جدا، أسعدني كرمُها، وحسنُ استقبالها، وكنا في حمّارة الصيف، فلما جاء أبو همّام، وقرأ خطّتي وافق عليها، وقال لي:
– أما أنا يا بني، فلديّ إشرافٌ كثير، فوق ما تسمح به لائحة الكلية، ولا أريد أن أُحرج أحدا، ولكني أبعث بك إلى أحد أستاذين فاضلين، فأيهما قبل بك (فاشتغل) معه، وأحدهما رأيته في مكتبه قبل برهة، فالحق به قبل أن يخرج.
خرجتُ من عنده، أبحث عن الدكتور الذي نصح به أبو همّام، فلم أجده، وتتبعتُ أثره في كل ركن بالكلية ظنوا أنه فيه فلم أجده، فرجعتُ -قد ألجمني العرقُ، وأخذ مني التعبُ- إلى قسم الدراسات الأدبية، فوجدت أم أشرف، فما كلّمتني حتّى أسعفت بماء بارد، ثم سألتني:
– هوّا أبو همّام قالك ايه؟
قلت لها: خيّرني بين الدكتور فلان، أو الدكتور عبد الرحمن الشنّاوي، فلما ذكرتُ اسم الأول انقبضت أسارير وجهها، وظهر على محيّاها بعض امتعاض، وعندما سمعت اسم الدكتور عبد الرحمن فرحت واستبشرت، وقالت لي:
– بصّ يا ابني، خليك مع الدكتور الشنّاوي، ده أستاز جميل جدا!
ولم تترك لي أم أشرف فرصة للتفكير، فقد جاءت بهاتف الدكتور عبد الرحمن، وقالت لي اتصل به الآن، تردّدت قليلا، ولكن قالت لي:
– لازم تتفق معاه دي الوقت حالا!
اتصلت بالدكتور عبد الرحمن فوجدته كريما، نبيلا، شهما، فاضلا، لين المعشر، مفيدًا لطلابه، مكرما لهم، فأفدتُ منه أبلغ إفادة حتّى ناقشت الدكتوراه بإشرافه، والحمد الله.
وسألت بعد ذلك عن الذي امتعضت له أم أشرف فأبلغني الطلاب أنه صعبٌ، شديدٌ، أو هكذا يقولون عنه.
ثم لم تزل أم أشرف تبرّني بإكرامها كلّما جئت القسم، وتأتي بالماء والشاي، وتفعل ما بوسعها، وقد بلغني –بعدُ- اعتلال صحتها، ووهن جسمها، وقد انقطعت أخبارها عني منذ 2011م، ولكن مازلت أذكر فضلها، وجميل نصحها، وأسأل الله أن يجزيها عني خير الجزاء . آمين

Related posts

3 Thoughts to “أم أشرف، للدكتور محمد الخازمي”

  1. د.محمد الخازمي:
    السلام عليكم. كيف حالك دكتور والأسرة الكريمة؟
    متعكم الله بالصحة والسلامة، ونفعنا بأدبكم وعلمكم، وجميل ما تختارون وتنشرون في هذه الصفحة المباركة، وقد والله أفدت منكم الإفادات الطيبة النافعة.
    وودت سؤالك عن سيدة فضلى كانت تشتغل بقسم الدراسات الأدبية بدار العلوم، يقولون عنها (دادة) يكنونها أم أشرف، وكان سيدي الدكتور أبوهمام يناديها باسمها، وقد نسيت الاسم، فهل تعرفه فضيلتكم؟
    والثاني: أسأل عنها، أما زالت بصحتها وعملها، فقد تركتها معتلة الصحة في آخر مرة رأيتها فيها سنة 2011م؟
    بارك الله فيكم

    محمد جمال صقر:
    وعليكم السلام يا د.محمد ورحمة الله وبركاته
    أسعد الله بالخير مساءك
    ☘☘☘
    ياااااااا سلااااااما عليك
    ويا أصلك الطيب
    لولا وجودي خارج مصر لكنت عرفت أواخر أخبارها
    وهي سيدة حبيبة إلينا جميعا
    لا نتأخر عنها في طلب
    بارك الله فيك

    د.محمد الخازمي:
    بارك الله فيك أستاذنا الدكتور على كلماتك الطيبة
    أعرف أنك في عمان بحسب ما أقرأ في صفحتكم
    ولعل خبرا من صديق فيسبوكي يصادفكم
    فإن يسّر الله لك شيئا أكن لك من الشاكرين
    وهذا شيء كتبته عنها فلعلك تطالعه إن وجدت له وقتا
    أم أشرف.docx
    05:00 Ù…

    محمد جمال صقر:
    الله أكبر
    هذا كلام لا يسكت عنه
    http://mogasaqr.com/?p=16556

    د.محمد الخازمي:
    والله يا دكتور لقد شرفتني بهذا النشر
    بارك الله فيكم، وأدام بركة تلك البقعة المباركة(كلية دار العلوم) وأعاد مجدها وزهوها. آمين

  2. فرحان المطيري

    سيسبان على ترعةٍ يرتوي دائمًا …! .. أسبغ الله عليكما سدول الستر ودثار الرضا أيها العامران بحب الحياة … قطعة الزمن الجميل لا تصدأ بما امتلأت من جميل الإنسان Ùˆ سحر الذكرى … امتلأ العمر شجونًا ورغبة في البوح ØŒ لكن فتر العزم وخفت النجم … سدد الله على درب الحُسْن خُطاكما وألهمنا وإياكما البيانَ المجيد والمعنى الرشيد والعزم الشديد والسلام والحب … قد والله أثارت الدادة سعدية لدينا شجونا ØŒ سامحَ اللهُ الزمنَ الجميل كيف يتركنا ويمضي!

    1. آآآآآه يا أخي الحبيب آه
      قد أثرت شجونا كانت هادئة
      وأججت نارا كانت طافئة

Leave a Comment