نجيب محفوظ قرن من الإبداع، حوار الدكتور سمير محمود

الحوار معه لا يحتاج إلى مناسبة، الشوق وحده فقط يحركنا صوبه… صوب قرن من الإبداع الأدبي الخاص، فصاحب الثلاثية، الأديب العربي العاليم الكبير ”نجيب محفوظ” ما زال متدفقًا بفكرة … حاضرًا بآرائه وأفكاره، متيقظًا نشطًا رغم عمره الـ 89، تلازمه ابتسامة سرعان ما تتحول إلي ضحكة تملأ المكان إذا ما مست شيئا ما بداخله إذا تطرق الحديث إلى الطفولة، وجدته طفلًا دون العاشرة، وإذا كانت المرأة والحب الأول هما محور الحديث وجدته أمامك عاشقًا عائشًا في زمن جميل من صنعه، وخلال حديثي معه الذي امتد لأكثر من ساعة تذكر محفوظ علاقته بالسلطة وصدامه غير المباشر معها من خلال أعماله الأدبية، كما ذكره حصول العام المصري الكبير الدكتور أحمد زويل على جائزة نوبل بلحظة حصوله عليها في الأدب منذ عشر سنوات وما ناله من اتهام ومديح وتهديد بالقتل وأخيرًا محاولة اغتياله. السطور التالية فيها تفاصيل حوار الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ مع ”الجسرة”.

• سلطة الأدب ”الإبداع والحرية” ضدان! وقد جاءت العديد من روائعك الأدبية في أوقات عصيبة من تاريخ مصر، فهل كان لإبداعاتك أي تأثير على حريتك الأدبية والشخصية؟
– الحقيقة أنني لم أعتقل يوما ما، حتى في أشد لحظات صدامي مع السلطة سواء مع السلطة الدينية بسبب رواية ”أولاد حارتنا” التي تردد أنها تتضمن آراء وأفكارا تسيء للدين أو غيرها من القصص والروايات التي قيل إنها موجهة ضد النظام، وأذكر أنني عبرت وقلت كل ما أريده تقريبًا في أعمال الروائية دون قيود، وبالتحديد خلال فترة حكم جمال عبد الناصر، وما لم أجاهز به كنت أرمز إليه لأوصله لجمهور القراء وهذه من مزايا التعبير غير المباشر. النقطة الأخرى التي أود التأكيد عليها هي أنني كأديب لست من أعداء السلطة كما أنني لست من أنصارها. لإيماني الشديد حرفة الأدب كانت تسيطر علي تمامًا، ولم أحلم بالتقرب إلى السلطة أو تحقيق أيه أهداف من ورائها والسلطة التي حلمت بها وعشت من أجلها حياتي هي سلطة الأدب والفن لا السلطة السياسية أو الإدارية. فلم أكن أحلم بمنصب ما، أما حلمي الكبير فهو كيف أصبح مؤثرًا بأعمالي وكتابتي في القراء أو المشاهدين لأعمال بعد تحولها لأفلام.
• معنى هذا أنك ضد عمل بعض الأدباء بالسياسة أو سعيهم للسلطة حتى لو كان ذلك بهدف المصلحة العامة للجمهور؟
– من قال! أنا أعبر عن حالتي والتي أري فيها سلطة الأدب والأديب أسمي وأرفع وأكثر تأثيرًا من أي سلطة أخري. لأنني أؤمن بأن الأدب مهنة مقدسة تفرض على من يعمل بها الابتعاد عن السياسة والإدارة بهمومها والتزاماتها وأعبائها. وأذكر أن من أكثر فترات عقمي الأدبي تلك الفترة التي قاربت العام والنصف والتي عملت فيها بمؤسسة السينما لم أقرأ ولم أكتب حرفًا واحدًا! وعلى أية حال المسألة لا يجب التعميم فيها فربما كان بعض الأدباء والمفكرين أكثر تأثيرًا وفاعلية بعد دخولهما ساحة السلطة الإدارية أو العمل السياسي. ولماذا نبعد كثيرًا فعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين صاحب مقوله العلم كالماء والهواء حقق هذه المقولة وطبق الشعار بمجرد أن وصل إلى السلطة وشغل منصب وزير المعارف مع بدايات عام 1950 حتى سنة قيام الثورة. إذن السلطة ليست سيفًا مسلطًا دائمًا ضد الإبداع أو الفكر أو الفن أو المشتغلين بهذه الأمور… ولكنها قد تكون في خدمة هذه المجالات ولو بقدر قليل.
• معارك أدبية! خلال رحلة ابداعية ممتدة لأكثر من نصف قرن، خضت وخاضت أعمالك أكثر من معركة مع النظام فهل تذكر بعض هذه المعارك؟
– هذه قصة طويلة، ولتعفني من التوقف عند تفصيلاتها وتواريخها لأنها بحاجة إلى حديث مستقل، ولكن علي أي حال أذكر أن أول القصص التي أثارت لي مشاكل ومتاعب مع نظام عبد الناصر، نشرتها في الأهرام بعنوان ”سائق القطار”، تشير إلى سائق يفقد السيطرة على القطار ويؤدي برعونته إلي وقوع كارثة. وقتها قيل إن القطار هو مصر وإن سائقه هو جمال عبد الناصر الذي يأخذها إلى الكارثة، وكانت مشكلة. كذلك أثارت رواية ”ثرثرة فوق النيل” التي انتقدت سلبيات المجتمع أكثر من مشكلة، واذكر أن الأهرام برئاسة حسنين هيكل رفضت نشر كل من ”المرايا” و”الحب تحت المطر” وكذلك الكرنك. ولاقتناع الكاتب والأديب رجاء النقاش بالمرايا نشرها في ”الإذاعة والتليفزيون” كما نشر ”الحب تحت المطر” في مجلة الشباب في وقت رئاسته لتحرير تلك المجلتين. ونشر عبد الحميد جودة السحار صاحب مكتبة مصر رواية ”الكرنك” بعد أن كانت الرقابة قد قرأتها وأدخلت عليها تعديلات عديدة هي ورواية ” الحب تحت المطر ”، لتنشر الروايتان بصورة مشوهة لم أكن راضيًا عنها وللأسف لم أتمكن من إعادة نشرهما بصورتهما الأصلية لعدم وجود أصل أي من الروايتين لدي!
• نوبل… موطن الألم! الأديب الكبير نجيب محفوظ. يعتبر البعض جائزة نوبل هي جائزة الجوائز أوصك الغفران وربما وثيقة الاعتراف بمكانة الأديب والمفكر والعالم ورجل السلام؛ فهل معنى هذا أن من لم يحصل عليها لم يولد بعد خاصة أدباء وعلماء العالم الثالث؟
– سؤالك عميق ويكشف بعض مواطن الضعف في العالم الثالث الذي يفقد الثقة في قدراته وإمكانياته وينتظر حتى يمنحه الآخرون شهادة اعتراف بذلك، لكن -وهذا هو الحق- هذه الجائزة من أرفع الجوائز العالمية حتى الآن وهى قيمة يسعي إليها الجميع. لكن القبول بأن من لم يحصل عليها لم يولد بعد أو لم يأخذ شهادة مرور مسألة مبالغ فيها، ولكنها تنوه بموطن الألم لدينا، وأعود لأؤكد ما قلته -ربما منذ عشر سنوات- أن العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم كانوا يستحقون تلك الجائزة عن جدراة خاصة الحكيم صاحب الانتاج المسرحي الغزير، لكن على أية حال لجنة الجائزة قد تمنحها لأديب غير معروف وتمنعها عن أديب ملء السمع والبصر لاعتبارات إنسانية وفنية في مضمون العمل الأدبي، ولهذا قيل إنها تأخرت عن الألماني ”جونتر جراس” مثلًا، كما أراها هكذا بالنسبة لجرهام جرين وألبرتو مورافيا واليوناني كازانتزكس صاحب ”زوربا” و”المسيح يصلب من جديد”. وأعتقد أنه بدلًا من اتهام نوبل بالتحيز أو خدمة الأهداف الصهيونية كما يروج البعض لابد أن نعي أن كبار الأدباء في مصر الذين ذكرتهم من قبل جاءوا في عصر مليء بالعمالقة في الأدب الأوروبي وهو ما قلل فرص حصولهم على الجائزة، وأنوه بضرورة ترجمة أدبنا العربي المعاصر حتى يتعرف عليه العالم ويدرك فنوننا وأدبنا وعشرات المبدعين الذين تذخر بهم الأمة العربية.
• رواد العرب! تطرقنا إلى الحديث عن المبدعين العرب وجائزة نوبل؛ فماذا عن الأسماء التي ترشحها أو تزكيها لنيل تلك الجائزة الرفيعة؟
– ضحك محفوظ وقال معاتبًا: ألم نتفق على عدم الرهان على ذاكرتي! ثم قال: تعلم أنني لم أقرأ بانتظام منذ عشر سنوات لأسباب إجبارية تتعلق بظروفي الصحية غير المستقرة فضلًا عن ضعف بصري. ولهذا لا أود أن أضغط كثيرًا على ذاكرتي حتى أستعيد منها الأسماء فأنسى بعضها عن غير قصد، لكن أستطيع أن أقول بارتياح شديد إن الأمة العربية لديها رموز أدبية قوية ومؤثرة تركت بصمات واضحة على الساحة الأدبية ولا زالت. خذ عندك شاعر الحي الذي رحل، أذكره باسمه فيقول: نزار قباني شاعر كبير، وكذلك عبد الوهاب البياتي والجواهري ونازك الملائكة والسياب ودنقل وحجازي وكذلك من الأدباء العظام أذكر على سبيل المثال الطاهر بن جلون وحنا مينا والطاهر وطار وعبد الرحمن منيف وأمين معلوف والطيب صالح وقائمة طويلة من الأصوات الأدبية والشعرية الجديدة التي تذخر بها أمتنا العربية. المشكلة ليست في الأسماء ولكن في التفرغ للإبداع وإيجاد جسر حقيقي لتوصيل صوت الأدب العربي للعالم. وأذكر أن الإنجليزية ساعدت شاعر الهند العظيم طاغور إلى جانب موهبته، على اختراق أوربا والحصول على نوبل.
• زويل قتل الصدفة! عشر سنوات تقريبًا تفصل بين حصول سيادتكم على نوبل الأدب وحصول د. أحمد زويل على نوبل العلم، وبين السنوات العشر حتى الآن اتهامات وتلميحات بعدم القدرة وشبهة التميز؟
– من حقك كعربي أن تغار من هذا الكلام كما ألحظ عليك، وقد انزعجت لهذا فور حصولي علي نوبل في 13 أكتوبر عام 1988ØŒ وهذا التاريخ لا أنساه أبدًا لكن متابعتي للجائزة وللحاصلين عليها سنويا في مختلف المجالات جعلتني أتوصل إلى اقتناع مؤاده أنك ستلام حتما بحصولك على الجائزة، وأن اللوم قد يطول شخصك، أو يطول إنتاجك الفكري أو الإبداعي، مثلما قيل إنني حصلت عليها لأن رواياتي تنتقد العالم العربي والمجتمع المصري ومن ثم منحي الجائزة هو تأكيد لشهادة إدانة مني لهذا المجتمع! وقد يمتد اللوم أو الاتهام لما هو أبعد من ذلك، كأن يقول البعض إنك تهاجم الدين وتتطاول على الأنبياء، مثلما قيل عن رواية ”أولاد حارتنا”، التي اعتبرها البعض سببًا مباشرًا لمنحي نوبل، إلي غير ذلك من اتهامات، إلا أن المسألة التي تظل موضوع نقاش هي ألم يكن ”س” من الناس أحق من غيره بهذه الجائزة؟ وتلك واحدة يرددها أكثر الطامحين إلى الجائزة والناقدين لها ولصاحبها. ثم جاءت جائزة زويل لتمحو الاتهامات… فقد قيل إنني حصلت على نوبل بالصدفة، أما أن يكررها عالم مصري ويفعلها ويحصل علي هذه الجائزة الرفيعة فلا مجال هنا للصدفة. وإنما هي قدرة إنسانية وعطاء خالص في بيئة ومناخ يسمح بذلك. الظروف غير مواتية أعود وأكرر أن البعض شكك في إمكان حصول الدكتور زويل على جائزة نوبل في الكيمياء لو كان قد بقي بمصر ولم يهاجر إلى أمريكا! قد يكون مع هؤلاء الحق فيما يقولون، ولكن هذا ليس عيبًا في زويل ولا علاقة له بتلك المشكلة، وأذكر أنني سمعت أن الرجل كان يعمل ويساعده فريق مكون من 150 باحثًا وعالمًا يطلقون عليهم مجموعة زويل. ولك أن تتخيل هذا الرقم، ثم سمعت أنه أنفق ملايين الدولارات خلال بضع سنوات علي أبحاثه وتجاربه ومعامله؛ فهل كان من الممكن أن تتاح له هذه الأدوات والأجهزة والملايين والمساعدون في مصر أو غيرها من الدول العربية؟ بالطبع لا! هذا يعني ببساطة أنه لو بقي لما زاد على كونه أستاذًا أو عميدًا، مثل طابور الأساتذة والعلماء البارعين في مصر والعالم العربي. وأعتقد أن المناخ من ناحية والأوضاع لدينا من ناحية أخرى لا تساعد على الابتكار والتفوق. ومن ثم قبل أن نحاكم من اجتهد علينا أن نحاكم الظروف ونهيئ المناخ ونجعل السيادة لعصر العلم والتكنولوجيا لا مجرد التشدق باستيراد منجزات هذا العصر من الغرب والوقوف أمامها دون دراية بقيمتها وكيفية تشغيلها وصيانتها. وللحق أقول إن مصر والعالم العربي يذخر بعقول واعية وقدرات خلاقة لكن الظروف غير مواتية… التمويل مشكلة… التنافس الفردي أيضًا مشكلة… مجتمع طارد للعقول… ردد زويل قبل فوزه بجائزة نوبل أن الفردية والأنانية تعجل بشيخوخة المجتمعات… فكيف نهيئ المناخ العلمي الصحيح لنرى عشرات من أحمد زويل؟ يضحك الأديب الكبير ويقول: ”زويل قال كده… معاه حق”! لكن تهيئة المناخ العلمي مسألة يجيب عنها العلماء، لكن يمكن القول إنه يلزمنا أكثر من مطلب: أولًا قاعدة عملية تؤمن بالعلم والتكنولوجيا، وثانيًا تمويل كاف للأنفاق على الأبحاث والتجارب والأجهزة لا على المرتبات المتواضعة فقط، ثم معدات متقدمة واحتكاك عالمي خلاق وإيجابي ومطرد. فالأديب يحتاج أن يطلع على الأدب العالمي والإسهامات الجديدة فيه. والعالم يحتاج أن يعرف نتاج العقل العالمي في مجال ما ويحتاج أن يرى ويجرب بنفسه، وهذا يعني بعثات وتبادلا علميا وثقافيا واسعا، بعيدًا عن تعقيدات الروتين. وأعود وأكرر نقطة قلتها، أن د. أحمد زويل كان يعمل ومعه 150 مساعدًا، وهنا أؤكد لك أن المصري –وكذلك غيره من العرب- قد ينجح فردا ولكن في إطار العمل الجماعي لاتسأل عنه، وهذه مشكلتنا، الفردية التي أعتقد أن سببها المباشر أسلوب التعليم الحالي القائم على المنافسة، والحاجة ملحة إذن لإعادة النظر في مناهج التعليم لتدعيم روح التعاون والعمل كمجموعة أو فريق يشعر كل فرد فيه بقيمة وينسب النجاح للجميع، بدلًا من أن تشهد أمتنا العربية حالات مستمرة من طرد العقول والكفاءات والكوادر والطاقات البشرية التي يحسن الآخر الاستفادة منها واستغلالها.
• قلت إن نظم التربية والتعليم لدينا بحاجة لإعادة نظر؛ فماذا عن التعليم الجامعي ورؤية سيادتكم له؟
– تبسط الأديب الكبير في حديثة وقال: ”يا عم دول بيقولوا إن كليات التجارة فيها أكثر من 70 ألف.. بالذمة ده كلام”! ويستطرد محفوظ قائلًا: أعتقد أن نقطة البدء الحقيقية لإصلاح المجتمع لابد أن تنطلق في القاعدة من التعليم، وهناك محاولات حقيقية وجادة في مصر لهذا الكلام، وأعتقد أيضًا أن اهتمام الدول العربية ومنها مصر بالكم دون الكيف كارثة. البعض يباهي بأن لدينا كم جامعة وكم كلية وعددا ضخم من الطلبة. وأقول إن هذه وحده لا يكفي، نحن لسنا بحاجة إلى طوابير من الموظفين، ولا بحاجة إلي طوابير من العاطلين. وأتصور أن الربط بين رغبات الطلبة من ناحية، واحتياجات سوق العمل من ناحية، وقدرات الدولة من ناحية ثالثة، معادلة صعبة يجب حلها فلا يجب إغفال الطالب فيما يجب أن يدرس. وهنا أذكر أن والدي -رحمه الله!- كان يأمل أن ألتحق بكلية الحقوق أو الطب لأكون طبيبًا أو وكيل نيابة، ولكنني التحقت بكلية الآداب حسب رغبتي التي كان من الممكن أن يقيمها والدي في ذلك من نهاية العشرينات. كذلك لابد أن نبحث في خطة التنمية وسوق العمل واحتياجاتها، بدلًا من أن نحول الجامعات والمعاهد التعليمية إلي مصنع تفريغ عشرات الألوف من العاطلين سنويًّا، الذين قد تتحول قدراتهم غير المستغلة إلى مشكلات يتكلف علاجها أكثر بكثير من تكلفة توظيفهم!
• بين العلم والأدب! نتحدث عن التعليم؛ فما رأى سيادتكم في وجود أكثر من نوع من التعليم في مصر: تعليم حكومي ”أميري” وتعليم نموذجي وتجريبي وأجنبي ومدراس للغات ومادة تاريخ اختيارية؛ ألا يوثر علي هوية الأخبار القادمة؟
– ضحك محفوظ للحظات وعقب سريعًا قائلًا: وجايز يا سيدي يكون ده مصلحة، لأن التنوع يثري الثقافات ويثري العقول ويرتبط بالقدرات وبحرية الاختبار التي سبق أن تكلمت عنها بالنسبة لحق الطالب فيما يدرس. لكن مسألة أن تصبح مادة التاريخ اختيارية في المدراس فهذا كلام مرفوض؛ إن أمة بلا تاريخ لا تاريخ لا مكان لها تحت الشمس. واذا كنت قلقا بشأن تكوين العقلية العربية والروافد المسؤولة عن ذلك بحسب فهمي للسؤال فإني أؤكد لك أن التعليم ثم التعليم مسئول يأتي بعده روح وقيم المجتمع ونظام الحكم السائد فيه وهذا كله من شأنه أن يتعاون ويتكامل في صناعة العقول وتكوين عقلية الأجيال المقبلة ولن يتسني ذلك إلا وفق خطة مدروسة تعي تجارب الماضي وتستوعب ظروف الحاضر وتتطلع إلي المستقبل، لا تركز علي الأدب وحده، أو العلم وحده، أو الصنعة والحرفة المهنية وحدها بل تمزج بين كل هذه المجالات لتقديم جيل من الأدباء والفنانين والمفكرين والعلماء والصناع أيضًا.
• ليست معركة! البعض رأى أن فوز د.زويل بجائزة نوبل أعاد للعلم هيبته ووضع العلماء في الصورة أكثر في حين توارى الأدب والأدباء قليلًا؟
– أجاب محفوظ بضحكته التي لازمته طوال الحوار دون أن يمهلني أكمل السؤال قائلا: ”يا سيدي هى خناقة”! ليست هناك معركة بين العلم والأدب، ولكل منهما دوره في المجتمع، ولكن ما حدث بمثابة نهضة أو قل انتفاضة، ويذكرني ذلك بحصولي على نوبل الأدب، وقتها حدث تسليط ضوء كبير على الأدب العربي كله شعرا وقصة ورواية، وتكالب الناشرون على ترجمة الأعمال الأدبية العربية لي ولغيري من كبار أدباء الوطن العربي ومصر، أما اليوم فالأمور مختلفة أيضا بحسب طبيعة ولغة العصر الذي نعيشه، عصر العلم والتكنولوجيا، ومن متابعتي المحدودة أسمع أن شابًا في مثل عمرك يمتلك أضخم شركة كمبيوتر تحرك العالم اسمه جيتس على ما أذكر، كذلك هناك أحاديث مطولة عن ثورات علمية سريعة يشهدها العالم في الفلك والطب والكيمياء والفضاء والجينات والليزر وغيرها. العالم يتحرك من حولنا إذن، ويجب ألا نكف عن البحث أو نقف مكتوفي الأيدي. وأري أننا نعيش الآن عصر العلم وأن أمتنا العربية أكثر حاجة الآن إلى العلماء منها إلى الأدباء؛ فأمة بلا علماء محكوم عليها بالفناء، وهذا طبيعة تطور وسنة وجود، لكن لا العلم يلغي الأدب ولا العكس، بل يا سيدي من الصالح أن يحدث التواؤم بينهما!
• مجرد شعارات! بعيدًا عن الأدب والعلم والثقافة الثالثة التي تجمع بينهما، يتحدث العالم اليوم عن ثقافة السلام، فما رؤية نجيب محفوظ لهذه الثقافة؟
– حتى لا تكون هذه الثقافة مجرد كلام أو شعارات لابد قبل أن تطالب بها العالم العربي، ولابد قبل أن تعلمها لأولادك، أن تلزم بها إسرائيل وأن تقبلها اسرائيل وأن تعود الحقوق والأراضي المغتصبة إلى أصحابها وأن تنضم إسرائيل إلى معاهدة حظر الأسلحة النووية. ويستطرد نجيب محفوظ قائلا: لابد أن يعم السلام قبل أن ننادي بثقافة السلام؛ إذ كيف أتحدث عن ثقافة سلام ولا تزال إسرائيل تحتل أجزاء كبيرة في الشرق الأوسط وفي فلسطين والجنوب اللبناني والجولان السوري، وما تزال إسرائيل تقوي من ترسانتها الحربية تدعمها الولايات المتحدة بأسلحة الدمار والفناء النووية. كذلك أؤكد أن المسألة هنا لبيست مسئولية العرب وحدهم حتى نطالبهم بقبول هذه الشعارات، بل هي رهن تطبيق عالمي، تنتقل عدواها آليًّا إلي كل الشعوب، لكن من حيث المبدأ يمكن تعليم الأجيال هذه الثقافة بزيادة الجرعات الإنسانية في المقررات الدراسية بدلًا من الإبقاء على بعض الأفكار التي تكرس العنف والعدوانية لدي الصغار. إذن التعليم والتربية والإعلام معًا هي المدخل الصحيح لهذه الثقافة.
• ثقافة عربية موحدة! من السلام إلى الديمقراطية وحلم الوحدة العربية… كيف يتحقق الحلم في ظل هذا التشرذم؟
– لا أود أن أكرر كلامًا نعيه جميعًا، ويكفي أن أقول على المستوي الثقافي مثلًا إن العرب يملكون وحدة ثقافية منذ أقدم العصور، مثل هذه الوحدة لابد من تثميرها لتكون نواة وحدة أشمل. ومقوماتها موجودة بشرط إخلاص النوايا، فلماذا إذن لا نستلهم الثقافة والدين واللغة التي تجمعنا في وحدة أشمل، وحدة سياسة عريضة، وحدة اقتصادية نواجه بها التكتلات العالمية، ولن يتسنى ذلك إلا إذا كانت الديمقراطية الكاملة هي مدخلنا إلى هذه الوحدة وأعتقد أن الشعوب العربية تعيش الآن مرحلة نضج ديمقراطي أشمل مما كانت عليه قبل نصف قرن؛ فلماذا لا نستغل هذا المناخ من الحرية في التوصل لصيغة عربية متكاملة!
• بعيدًا عن السياسة! هل تتغير أشكال التعبير الأدبي مع بداية الألفية الثالثة؟
– الأديب ابن عصره، يعبر عما يراه في هذا العصر ويحاكي المألوف من الحياة، وهذا لا ينفي أبدًا الرؤية المستقبلية للأديب أو الخيال الواسع له، لكن عاطفة مثل الحب مثلًا أو العلاقات العاطفية والإنسانية لا أعتقد أنها تتبدل؛ فالحب هو الحب وإن اختلفت أشكال التعبير عنه، وإذا كان الحب يمر بأزمة الآن لظروف ما فسيبقي الحب وسيبقي التعبير الأدبي وسيبقي الالهام الخاص لكل أديب وشاعر مهما اختلف الزمن.
• قلت للأديب الكبير: هل تسمح بأن نختم الحديث بالكلام عن المرأة والأسرة ورأيك في قانون”الخلع”، الذي أقر في مصر مؤخرًا؟
– ”عايز إيه بس من المرأة”، قالها محفوظ ضاحكًا، ثم استطرد: أنت تعلم أنني لا أقرأ ومتابعتي محدودة… أعطني فكرة عن القانون لأقول رأيي! فأجبته إلى ما أراد؛ فقال: هذا قانون في صالح المرأة لأنه يعفيها من تسلط الرجل؛ لكن كيف للفقيرة أن تستفيد به وهي لا تملك ثمن حريتها أو قل تملك بالكاد ثمن رفع دعوة الخلع، وأعتقد بصفة عامة أنه لا ينبغي الاختلاف حول مبدأ أقره رسول الله -صلي الله عليه، وسلم!- وإن كنت أرى أن الود والتفاهم بين الزوجين أفضل الطرق لإزالة أي خلاف ينشب بينهما، فإذا كان من الممكن أخذ حقوق دون اللجوء إلى المحاكم فهذا أفضل، أما إذا استحالت العشرة بين الطرفين فالمحكمة هي الحل. أما الطلاق في الزواج العرفي فهذا أحفظ لحقوق المرأة واعتراف مدنيٌّ بما لها من حقوق بموجب العقد العرفي بدلًا من تركها وهجرها بلا أدني حقوق. أما مسألة السفر هذه فلم أفهمها جيدًا لكنها بحاجة لتأن وإقرار لصالح الزوجين معًا لا أحدهما على حساب الآخر.
• وماذا عن حياة نجيب محفوظ الآن، وما آخر إبداعاتك؟
– حياتي طبيعية جدًّا، لكن الإبداعات انحسرت تمامًا منذ عام 1988 أو بعدها بقليل، لأسباب عديدة: بعضها يتعلق بحالة مزاجية، وبعضها يتعلق بسؤال يشغلني ما الجديد في هذه الفكرة التي طرأت على خاطري، وأغلبها يعود لأسباب مرضية بحتة منها السكر وضعف البصر إلى حد كبير، إضافة إلى الارهاق ونظام الغذاء الصارم وجلسات العلاج الطبيعي. لكن من حين لآخر، عندما تلوح لي فكرة أدونها في ورقة وأعود إليها إلى أن تكتمل قصة قصيرة أنشرها في مجلة نصف الدنيا. أما الشيء الذي أنتظم فيه وأحافظ عليه أسبوعيًّا، فهو مقالي “وجهات نظر”ØŒ الذي ينشر كل خميس بصحيفة الأهرام. اعتدت أدخل فراشي بعد منتصف الليل وأستيقظ مبكرًا، وأستقبل بعض الأصدقاء، وأتابع ما يحدث من حولي من خلال الآخرين.
• شكرت الأديب العربي العالمي الكبير على هذا اللقاء الممتع الذي لأكثر من ساعة بمنزله المطل على نيل العجوزة… ولملمت أوراقي ثم هممت بالرحيل.
• دون فلاش!
– عندما حدد لنا الكاتب الصحفي محمد سلماوي صديق الأديب الكبير نجيب محفوظ موعد اللقاء، نبهنا على أن التقاط الصور مع محفوظ سيكون دون فلاش نظرًا لحساسية بصره الشديدة للفلاش.
– حرص صاحب نوبل المولود في يوم الاثنين 11/12/1911 بالبيت رقم 8 من شارع بيت القاضي بحي الجمالية من الحسين- على استقبالنا بنفسه وتقديم حبات الشيكولاتة إلينا قبل بدء الحوار.
– الابتسامة ثم الضحكة العالية من القلب سمات أساسية غالبة على شخصية صاحب نوبل الهادئ؛ فهو ينصت للسؤال بأذنه اليسرى نظرًا لضعف أذنه اليمني تمامًا، ويستوعبه ويتأثر به وينخرط في الضحك قبل الرد عليه، ولا تخلو ردوده من قفشات ظريفة تصل إلى حد النكات.
– يعتز نجيب محفوظ جدا بشخصية ”عطية الله” زوجته ورفيقه كفاحه التي يؤكد أنها تحملت الكثير لتكيف ظروفها وفق برنامجه ولتوفر له مناخ الحرافيش إلى جانب متابعتها الحالية الدقيقية لنظام غذائه الصارم.
– انقطع محفوظ عن القراءة إجباريًّا منذ عشر سنوات لظروف صحية، ويحرص أحد المقربين على المرور عليه صباح كل يوم لقراءة الصحف عليه.
– نجيب محفوظ شخصية منظمة صارمة تحافظ بشدة على المواعيد، ومنذ سنوات عديدة يأوي إلى فراشه مبكرًا ويستيقظ مبكرًا ويزاول رياضته المفضلة وهى المشي الذي انقطع عنه سنوات بعد محاولة اغتياله عام 1994ØŒ وبعد تأخر ظروفه الصحية.
– والدة الأديب الكبير لها مكانة خاصة في نفسه وتأثير كبير على حياته ربما يفوق تأثير والده؛ فقد كانت عاشقة للآثار، فضلًا عن عشقها الخاص لزيارة أولياء الله الصالحين واصطحابها له معها خلال هذه الزيارات التي كانت مصدرًا لشخصيات رواياته فيما بعد.
– عرف الحب قلب الشاب نجيب محفوظ خاصة بعد أن انتقل وأسرته للعيش بمنزل الأسرة بحي العباسية، غير أن حبه كان من طرف واحد، ولم يكن يجرؤ على البوح به لمحبوبته، وقد عبر عنه في “الثلاثية” التي تشابهت شخصيته الحقيقية وشخصية كمال عبد الجواد، في حين كانت فتاته في الحقيقة هي….
– كان اسم نجيب محفوظ نقمة عليه وسببًا في حرمانه من السفر في بعثة إلى فرنسا كان قد رشح لها مع آخرين؛ إذ ظن مدير البعثات أنه مسيحي، وكان قد اختار اثنين من المسيحيين للسفر ولا مكان لمسيحي ثالث! حاول محفوظ وقتها تصحيح الوضع لكن بعد فوات الأوان، وقتها نقم على الاسم المستمد من اسم الطبيب الذي قام بتوليد والدته إخراج هذا النجيب صاحب نوبل.
– نجيب محفوظ من رواد المقاهي بامتياز… له في معظم مقاهي مصر مكان وصور وذكرى وأصدقاء خاصة مقاهى حي الحسين… الفيشاوي تحديدًا إلى جانب مقهى ريش ومقهى علي بابا بالتحرير والذي التقى فيه بعضو بارز بالكونجرس، ثم مقهى قشتمر بالعباسية ومقهى عرابي.
– عرف عن نجيب محفوظ عدم حبه للسفر، حتى إنه لم يسافر إلى السويد لاستلام جائزة نوبل في حين توجهت ابنتاه فاطمة وأم كلثوم لتسلم الجائزة بدلًا منه. ومع ذلك سبق لمحفوظ أن سافر مرتين الأولى إلى اليمن والثانية إلي يوغوسلافيا في الخمسينات، وهي رحلات يقول عنها إنها اضطرارية ولولا ذلك ما سافر قطُّ، خاصة أن السفر يشعره بالاضطراب النفسي والضيق الشديد.
د. سمير محمود
كاتب صحفي مصري
نائب رئيس تحرير الأهرام
رابط الحوار كما نشرته مجلة الجسرة الثقافية في 16 ابريل 2011:
http://aljasra.org/archive/cms/?p=973

Related posts

Leave a Comment