نذر للمبارك!، للدكتور السيد شعبان جادو

تعلقت بذيله، يركب حمارا له برذعة مزركشة، الأمهات يتركن صغارهن وراء الرجل المبارك، أنا دائما أتبع خطواته، حيث يدلف في ممرات الحارة الخلفية، مولع هو بأسرار النسوة اللائي يضعن الحناء في شعورهن، لهن عيون تتحرك رموشها سهام ليل لا تخطيء فريستها، تقال عنه العجائب، وفي كل مرة يختمون حديثهم بأنه رجل مبارك، بالفعل هو مثير في شكله، غريب في كل أفعاله، لا يرتدي سروالا، تبرز من فمه فلجة، أحمرالوجه كأن اللهب يخرج منه، جدتي- كانت من دراويش السيدة- تظل طوال الليل تعد الفول بعدما تكون نقعته في الماء يوما كاملا، تلفه في الخيش حتى إذا ما أخرج نبتته، صنعت منه في ماعون كبير وليمة الفول النابت!

تقلب بيد وتتمتم بلسانها أدعية وأورادا، تهز رأسها وجدا فغدا ستكون في حضرة أم هاشم، لامست تلك العدوى قلبي، فغدوت أتبعها في رحلاتها شرقا وغربا، يخيل إلي أنها ما كانت تعرف الكذب، تلبس الثياب الخضراء، تضع مسبحة طويلة ذات تسع وتسعين حبة في رقبتها، إنها مباركة، تغيب في خلوتها أيام وليالي، تصوم كثيرا عن الطعام، لكنها مولعة بالرغي المفضي إلى حكاية عجيبة:
نسيت اسمها، لم تصبر على موت زوجها إلا أياما؛ وضعت الملاءة اللف، جابت الحارة تريد صيدا، وللنسوة حيل لا تخفى، جدتي عندها السر؛ لها العذر فقد ظلت تلك الوالهة عذراء أعواما، لم يكن غير حائط بنيان تهدم، تمور داخلها نار تشتعل كل ليلة، يأتيها محملا بتمتمات وتعاويذ الرجل المبارك، اشتهته!
تنذر المرأة لدراويش السيدة الفول النابت إذا اغتسلت في صباح متوردة الخدين، أن تطلق عنان جوادها الجامح، تتحسر أنها لم تف بعد، أشبه بشجرة توت ذكر، والعمر سراب، تظل جدتي بمكرها، تتحايل عليها، كانت تغرس إبرة في قلب المرأة اللهفى!
صغيرا تبعته مثل ظله، يتخفى في دوامة أوراده، قطعة من حلوى يضعها في فمي؛ سكر بنات؛ كلماته نشوى، يدلف في ممرات يحتار فيها الجن، ترقبه بعين مشبعة بالحرمان، ينساب رغاؤه، يأتي الصغار ويتبركون به، أرجع إلى جدتي، ولأنها ماهرة، تقتنص الكلمات من فمي، تعرف كيف تسلبني الأسرار، تهرول مسرعة وتشعل نيرانها، تضع الفول النابت وتنفخ فيه لهبا، الحجرة العتيقة مفعمة بجذوة قلب يمور في سرعة عجيبة.
يبدو أن الأشياء كما الكائنات الحية مصابة بالتبلد، ساعة الحائط تعاني من فقدان الذاكرة، تتوقف وتتحرك كما يحلو لها، ورقة الزمن لا تبرح اليوم الأخير من الربيع، رغم أن الصيف على أشده؛ تهرب المواقيت من لهبه، تحتمي بتلك الحيلة، فكثيرا ما يكون العطب دفاعا تعجز عنه أشد حالات الهجوم؛ إنه اختزان لأجنة لما يحن بعد موعد ولادتها، تعلمت كل هذه الحكم من فيض ريق شيخي الذي احتواني زمن التخاريف الأولى، تبعته مثل ظله، كنت يتيما فآواني، وضالا أمسك بيدي حتى إذا فطمت عن الهوى أوصاني: لا تقرب البحر ذا العمق، احترس من الوسواس الخناس، إياك من تلك التي أخرجت أباك من الجنة!
لبست جلبابه، توكأت على عصاه، علقت مسبحته في رقبتي، تمتمت بأوراده، صنت عهده زمنا. حتى إذا ضرب الجفاف جسدي، أوشك صلبي أن يلين لنداوة المشاغبة، كالراعي حول الحمى أوشكت أن ألقى بنفسي في لجة بحره.
ولأن القلب مغلف بإطار من صبابة، حتى إذا ما التقيتها، تحركت نوازع شتى في قلب غض ما عرف الهوى.
لاحت مع الربيع زينة، أغمضت جفني يوما، عجزت فالتجربة ممتعة رغم أنني أعطيته العهد، اختلست نظرة عجلى، سرى الداء في جسدي رعدة، تخلصت من بعض شحوب في وجهي، تفتحت البراعم جواري.
خرجت من ثوبي الذي طواني عمرا، ليتني فعلت هذا من قبل، هذه أحوال متغايرة كما فصول السنة المرهقة جراء الصمت المخيم على عقارب الساعة المصابة بالخرس رغما عنها.
في شرفة نافذة تعلو بيتا يقف الحارس ممسكا بعصاه،يلوح خيالها كما القمر يجلله السحاب غلالة نسجت من الضوء، أوجس مني خيفة، طوح بعصاه، يضرب في غير هوادة، يقرأ وجهي، منذ زمن يتبعني، عرف السر المطوي داخلي؛ هارب من قبضة وليه ذي العمامة الخضراء، يتبع هواه آونة ويبكي على خطيئته ليله، يهرول صبابة، يذرف دموع الوجد أوراد الصباح ودعاء السحر.
هربت منه لما خفته، أشعلت في ثيابي القديمة نيرانا شبت لا تبقي على شيء، يهزأ بي الشيخ، يرسل طيفه في أحلامي، تصيح بي نداهة السحر: دع عن جفنيك الوسن، طارت الوساوس في ردهات ممر يفضي إلى عمري المكتسي بالانتظار.
سرى خياله في شرياني وهج امرأة كنت رسمت لها صورة أودعتها سفر الماضي المشاغب، تبعتها- مثل النيل وقد اندفع عاشقا- ألقت بجسدها المتماوج فتنة أعادت إلي وهم العمر المصاب بالبرودة.
كانت طيفا أرسله، إنه يعبث حيث تحلو في المنى ساعة الصفو، النجم الأيض يشاغلني، تتحرك الأرض رقصا، تبرز على الحائط شجرة الخلد، شعرها يتهدل كما الصفاف أطلق أوراقه للريح تغازله.
انسابت من فمي كلمات الطرب، تمايلت رقصا، جاء الشيخ إلي، عانقني فأجهشت بالبكاء، مسح على صدري، نسيت صبابتي، عاهدته ألا أقرب الهوى، انكشف الغطاء الذي ران على قلبي زمنا.
طهرت ثوبي، قدمت بين يديه حاجتي، أشار إلى تلك الفتاة ذات الخد الأحمر، أوصى بي الحارس؛ أن يدعني أطرق الباب، وهبني عقدا وجلبابا وقلما، بعض ماء مبارك من زمزم” إنه لما شرب له”.
غفوت فرأيتها، وقد تمثلت لي بشرا سويا، أعطتني ورقة خضراء، سمكة بذيل به حناء، انتبهت فالليل داج.لقد حان فض ذلك الغشاء الرقيق، بكرا كانت تتقلب في مخدع كأنه رأس شيطان، لم تمض شهور عدتها بعد،لا يأبه لها، تتعارك دواخلها، به لوثة لا ضير، هي تعرف هذا، تحتاج جذوته، ترتد حسيرة إلى جدتي، في لؤم العجائز، تحكي: إنه رجل مبارك!
لم أع دلالة هذه الكلمة، تحايلت جدتي عليه أن يأتي بالتأكيد وحده، عندنا الخبز الطري، حبات الفول مخلوطة بالسمن، سبع بيضات، دجاجة شهية، خصية تيس بري، زوجين من الحمام، بخور معتق، حجرة منزوية تعلو الفرن.
جاءته تمشي على موقد الجمر، سيدي الرجل المبارك يلتهم الدجاجة في شراهة، يتساقط المرق كما العرق حبات در، هكذا كانت ترقبه في وله، تتمعد أن تريه زينتها، يغفل عنها، أصابعه تعبث في غير رحمة، تتكسر عظام الحمامة، يبكي قلبها ولها، يترنح مصابا بالتخمة.

Related posts

Leave a Comment