قراءة العدو، لأحمد حسن سليمان تلميذي المصري النجيب

الحب يعمي ويصم، ويزين ما يشين، والحَيدة قولُ ربنا: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا».
والبغض فضاح والحاقد نِقاب متمهر.
وجماعهما قول القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ويقول ابن حزم -بل الله ثراه- فيما روي عنه: «لولا الخصوم ما كتبت حرفا».

ومن سياقات النصفة ومدرجات العدل والإحسان فعل القراءة التكليفي التثقيفي، ومنه يبرز سؤال الكيف متخطيا سؤال التغيي؟
وليس أدلّ عليه من ذلك الكتاب المنظور المأمور بتدبره وقراءته حق القراءة «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم».
فإن اختلفت الغايات وأخذ كل راكب مستدقا خاصا، فالجميع مجموعون على صعيد تلك الصفحة الكونية المفتوحة.
أما بعد:
فإذا أراد المرء تصفح كتاب أو مطالعة نتفة أو النظر في مستجد فكرة أو طريف خاطرة، أو وقع أخيذ مقطوعة ترنم له قلبه قبل سمعه فلا يجعلن أبلغ وُكده إلا حافرة أول ياء؛ لأن النقد واقع هناك.
ولا تعجب -إن كنت أسير عجب من قول ربنا في محكمه- أن هداك بغير جهد وبعد تسمية وحمدلة، إلى أنه «لا ريب فيه».
ودون ذلك من هذا اليقين وتلك السنة النبوية الثابتة في مقامها العالي فلا تذهب فيه قدما إلا بعد أن ترجع أُخرا مرارا مرارا، متقبيا قَباء العدو؛ لا يُسلم صدرَ الكلام إلى عجُزه إلا بعد دفع ومدافعة، ناهيك من أذن مُغَيْريّة تسمع سماع العدو وتقرأ قراءة الحاقد.
أما الوليد الخِضْرم فلم يقل مقوله – وهو العدو – إلا بعد أن راودته نفسه على غيره واشتعل نارا صدره وغتّ حلقه أن يقول طلاوة وحلاوة ومثمر ومغدق، وهو الأريب الفطن؛ قلّب الأمر، وعاد وزاد، وذهب وجاء، فلم يجد فيما يرومه مغرز إبرة من إفك أو شعر أو دجل أو هذرمة، ولكنه الكفر العتيد الذي يفسد ماء الفطرة الجون، فجاء بكفريته بعد فكر وتقدير ونظر وعبس وبسر… فقُتل!
واعلم أنه لا يصلح في فعل القراءة التعبدي أن تكون أخّاذا نبّاذا لا تقف على شريف المعنى ودقيق اللفظ عند من آمن بك أو كفر بك، بل لا بد أن تستقيم نفسك على أخذ النقد سيرة، فلا يهولنك طنطنة أو قرع طبل أجوف، ولا تُستَهتَر بساذَج الكلام إن كان، فَعَلّه ينبيك مما لم تُعَلّمْه رشدا. وخذ من الكلام ودع.
ولا تزدر قولا معادا مكرورا؛ فلعل الحكمة كامنة في قراءته الثانية ومنزلتك الإدراكية موقوفة على ارتقائك درجات في ذلك السلم المعرفي، وما المعرفة إلا تكرار ما نقول على نحو ما أو كشف عما بُلّغناه من طريق ما!
فإن كنت مُحبّرا مقالا ولابد، ومزوّر كلام لا محالة، فانظر إليه بعين وليك مرة وعين عدوك مرتين، واقرأه قراءة المعجب تارة وفاتشه مفاتشة الحسود مرتين، فإنك ولا بد واقع فيه على ما تتأثم منه أو تعتذر عنه، إلا ما لم يُجعل لك إليه سبيل فلا تكلف فوقه بعد بَذْلك ما استطعت فيما دونه.
وإن كنت قارئا طُلَعة فلا تجعل قراءتك إزجاء وقت وملء فراغ ونهما تثقيفيا باردا حتى يقال ويشار ويذيع صيتك في منتديات المتثقفين فتحسب نفَشَك شحما، بل لا بد من توقيف الحروف عند أخواتها وإيقاف الكلمات في جملها وربط الجمل بسياقاتها ورد الأول على الآخر وقياس الحاضر على الغائب، وتستصفي الرّمَّ من الطِّم.
ولا شك أن الواحد وجه أمة، به قيام أمرها ومبدأ رشدها؛ فإن صحت قراءته نفسَه صحت قراءة أمته على الوجه الذي قررناه آنفا، فليقرأها علماءها وتراثها وحياتها على وجوهها الكائنة المتخيلة مرة بعين الولي المحب ومرتين بعين العدو الشانئ، حتى يتحسس منها موضع العورة -إن كان ثمة عورة– فيواريها، وموطن جرح فيدمضه، وآهات ثكالى فيواسيهن، وأنات يتامى فيكفلهن، ويتعهد تلك الأمة بتيك القراءة، طفلا ثم شابا ثم شيخا؛ فحياته حياتها ولابد.
هذا، وإن لسلطة العوام لطنينًا يؤرق، ودبيبا يجري من الرجل مجرى الدم، ولا يُعصم من الذبح تحت شفرتها إلا من أوتي حظا عظيما، والمسدّد من لم يركب هوى نفسه وإن خالف الناس أجمعين.
والملحظ القرآني ينبي عن كل هذا ويزيد، فقد جعل شبهات العدو ماثلة في عين المؤمن وعلمه كيف يردها على كل وجه ممكن مفترقة مجتمعة وكيف يحسن مقام البَهت وأين يجمل مقام الموعظة بالحكمة وفيم الغلظ والحزم، وعدّد مقامات الدعوة وسبل الاحتجاج.
فسأل سؤال العالم ليُعلّم ويجيب ويفند ويفرق ويجمع:
«أم يقولون افتراه»،
«أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون»،
«أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون»،
«أم يقولون به جنة»،
…ØŒ وهلم جرا!
بل قلب الأوجه واستثار العقول لتلك الأسئلة والأقوال والقراءات المستقبلية الخابلة:
«سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم»،
«سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا»،
«سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم»،
…ØŒ وهلم جرا!
وجعل لكل قول رديفه ولكل حجة داحضتها ولكل دعوى سكينَ موتها في نفسها، وعلّم النبي ليتعلم القارئ المثقَّف المثقِّف كيف يقول وأنّى يقول بعد قراءة المحب المعجب وقراءة العدو المهلك، فقال:
«قل هو الله أحد»،
«قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب»،
«قل الله أعلم بما لبثوا»،
«قل تعالوا إلى كلمة سواء»،
«قل كل من عند الله»،
…ØŒ ولا خيرَ مما عند الله.
وهكذا تتجاذب وتتماسك مقامات القول، وهكذا يؤخذ القرآن بلحمته وسداه؛ كلًّا لا يتجزأ وخيطا لا ينقطع ليعضد ذلك الفعل التعبدي ويبسطه في النفس المؤمنة، مؤذنا إياها بطرق أدائها، متمثلا بنفسه أقوال الصادق والكاذب والبر والفاجر، مازجا سنن الشرع بسنن القدر وموقع المؤمن بينهما كليهما معا.
وجعل رأس الأمر قراءة باسم الرب الذي خلق، وعمودَه امتثال التقوى وطلب السداد حتى لا تُقصى النصفة ولا يستبد الشنآن، فتضيع الأمة بيدها لا بيد عدوها.
«واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت»؛
صدق الله العظيم!

Related posts

Leave a Comment