العشرة لا تهون، لمحمود رفعت تلميذي المصري النجيب

تلومُني عيني بالألم، وهي لا تدري أنني بهذا الألم نفسه ألومها على أنها لم تحافظ على بناتها.
ومثل فعلك فعلي، ويلي من الأحمقين!

أحمقان، لأننا كلينا نعرف أننا كلينا بريئان، ولا ذنب لي أو لها في انهمال هذا الدمع، لكننا لا نقوى على مواجهة المشاعر التي تدفع به، ولا على أن نَذْكرها؛ لأن غريزة التعايش تحجب أصحابها إلا عن مواجهة ما يقدرون عليه، فإن بدا لهم عجزٌ عن المواجهة تراجعوا، ثم زادوا انهزامًا على انهزامهم فتراجعوا حتى عن ذكر ما يخيفهم، فإن كان ولا بد كنَّوْا عنه بلا استحياء! وربما أوغلوا في الانهزام فعجزوا إلا عن التجاهل التام، وستروا عجزهم وتخاذلهم بمواجهات فرعية سخيفة لا هدف منها إلا دفع المذمة عنهم، وما هي إلا تأكيد لاستحقاقهم إياها.
عرف الناس منذ القدم أن العقل لا يعقل صاحبه فقط، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي رافع معروف: “لو لم تقل هذا لناولتني ما دمتُ أطلب منك”. ثم انتقل هذا إلى وعي الناس، أو ربما كان مستقرًّا في وعي بعضهم من قبل ذلك؛ فتراهم يخشون التصريح باسم ما يخيفهم؛ فالثعبان “مبروك” والسرطان “المرض الخبيث” والجن “ربنا يجعل كلامنا خفيفًا عليهم” وهكذا دواليك؛ كأنه إن صرح باسم ما يخيفه ظهر له؛ فيكنّي وجسمه يرتعد .
فقد أدرك الإنسان منذ القدم قدرته على استحضار الغائب وإزهاق الحاضر بمجرد الذكر، فكان في قرنهم العجز بالقدرة اعترافٌ بحقيقة النقص فيهم.
فإن كنتَ -أيها القارئ- تلومني الآن أنت أيضًا على استطرادي هذا، وتعتبره تهربًا فإنني لا ألومك؛ لأنه يمكن أن يكون كما ظننتَ؛ فإن عدنا لحديث المشاعر فلا بد أن نقف أمام قول الشاعر:
وتحسب أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبرُ
فإن هذا القول إن صحَّ -وأحسبه صحيحًا- فلن يكون في هذا الجرم الصغير ما يشبه الجنّ في العالم الأكبر إلا المشاعر، والجنّ مراتب؛ قالَ أبو عمر بن عبد الْبر: الْجِنّ عِنْد أهل الْكَلامِ وَالْعلم بِاللِّسانِ منزّلون على مَراتِب؛ فَإِذا ذَكروا الْجِنّ خالِصًا قالُوا (جني)، فَإِن أَرادوا أَنه ممن يسكن مَعَ النَّاس قالُوا (عامر) وَالْجمع عُمّار، فَإِن كانَ مِمَّن يعرض للصبيان قالُوا (أَرْواح)، فَإِن خبث وتعزم فَهُوَ (شَيْطان)، فَإِن زاد على ذَلِك فَهُوَ (مارد)، فَإِن زاد على ذَلِك وقويَ أمْرُهُ قالُوا (عفريت) وَالْجمع عفاريت وَالله تَعالَى أعلم بِالصَّوابِ .
ومشاعر الإنسان أيضًا على مراتب تشبه مراتب شبيهها في العالم الأكبر، وخبث المشاعر أن تكون في غير موضعها؛ فتضطر صاحبها إلى ما يجب غيرُه عليه؛ وكلما زاد تأثيرها على صاحبها انتقلت من مرتبة إلى مرتبة، والغريب أن هذا العقل الذي قد أوتيَ من القوة ما يجعله قادرًا على التحكم فيما يحيط به بالملاحظة والتفكير المجردين- يقف أمام هذه المشاعر الخبيثة عاجزًا، ثم لا تكتفي حتى تقهره؛ فيقر بها، ويعمل لها فيأتي بالعجائب!
وأيُّ عجيبة أعجب من حنين إنسان إلى فترة من أسوأ فترات حياته، ثم لا يكتفي حتى يقرر أن يعود من وقت لآخر إلى الأماكن التي كان يزورها في تلك الفترة، ويضع لعودته ترتيبًا ثابتًا!
هذا هو العجيب، لا كما تصور تميم البرغوثي في مطلع بردته حينما تساءل متعجبًا:
ما ليْ أَحِنُّ لِمَنْ لَمْ أَلْقَهُمْ أَبَدَا وَيَمْلِكُونَ عَلَيَّ الرُّوحَ والجَسَدَا
فما من عجب في أن يحن إنسان إلى من يحبه مثل هذا الحب الذي بولِغ في وصفه بملك الجسد، فلو أن تميمًا اكتفى في تعجبه بالشطر الأول لقام له بعض العذر!

ولهذا أُلام في الحنين إلى تلك الفترة ومَن فيها؛ فيُقال: تجلّد؛ فقد ضعفتَ في وقت كان يجب أن تكون فيه قويًّا.
وهل يكون قويًّا من اقتُطع جزء من جسده! وهل يكون مرض هذا العضو المبتور أو ضعفه عذرًا كافيًا ليفرح من تخلص منه!
فإن كان من طبيعة الجسد البشري استقلاله؛ فلا يلتصق ولا يتداخل في شيء مما يحيط به، فليس ذلك من طبيعة الروح، وحتى لو كان فإنه لا يسهل على إنسان أن يتجاهل ما حدث بنفسه خلال فترةٍ ارتبط فيها مصيره بمصير غيره؛ فاتحاد خطواتهما على طريق واحد لغاية واحدة يجعلهما كعضوَي جسد واحد، ومهما كان من ضعف أحد العضوين فإنه لا يسهل على العضو الآخر مهما كان قويًّا أن ينفصل عن زميله؛ فإن كان المفقود أضعف من أن يتحرك مع زميله بالقوة نفسها فقد كان يُعتمد عليه اعتمادًا حقيقيًّا، أو متوهمًا فيكون اعتمادًا على وجوده لا عليه، كما يجد صاعد السلم في ماسكه له قوة ربما لا تتعدى الوهم، لكنها تدفعه للصعود، ولو أحجم الماسك عن التمثيل لأحجم الصاعد عن الفعل، وعلى هذا يجب أن نقيس أقدار الناس؛ فليس قدرك فيما تنجزه من أفعال فقط، واعلم بأن الوهم الذي يُلقي في روع الوحيد الخائف أنه يرى ويسمع هو نفسه الوهم الذي يُلقي في قلب المُفرَد بعد شركة حنينَه إلى من ارتاح من ضعفهم؛ فيرتاح ولكن لا يجد راحة.
فأبشري يا عين بالفرج؛ فإنني لن أَبْذُلَكِ حزنًا على مَن بَذَلَكِ!
إن النَّدَبَة التي يتركها الجرح لا تؤلم بنفسها، ولكن بما تحمله من ذكريات مؤلمة، واستبشاع منظرها لن يُذهبها، ولن يستبشعها إلا أحمق مفرط الحمق؛ فإنها وسام لا يحمله إلا من وُهب نفسًا طيبةً، تضنّ بالذكرى، وتحتمل أذى الناس.

محمود رفعت
mrefaat87@gmail.com

Related posts

Leave a Comment