كأن الحزن مشغوف بقلبي، لمحمود رفعت تلميذي المصري النجيب

☘🌺☘
قد قرأت كلامك
وهو نمط رفيع من التشغيب على المتنبي
وهذا المصطلح الذي استعمله علي البصري وأغفل أنه ربما كان من فاخر النقد
فقد امتحت له من سرك ونضحته بنفسك
☘🌺☘

مُتَّ يا أبا الطيب -غفر الله لك! – ولم تمت ألاعيبك؛ أإن كان الحزن مشغوفًا بقلبك حقًّا أكان يتركه في هجر أو وصال! إنك إذن لم تعرف الحزنَ، ولم يعرفْ قلبَك!
كأنَّ الحزنَ مشغوفٌ بقلبي فساعةَ هجرِها يجدُ الوصالا
لو أنك قنعتَ يا صاحبي في تشبيهك بالشطر الأول لما فاتتك البلاغة، ولا جاوزتَ البيانَ عن أفئدة الناس ومشاعرهم، لكنك أبيتَ لخيالك العتيّ إلا أن يمضيَ في عتوّه فجعلت حزنك مُحِبًّا مستأنَسًا يتقدم وقت يخلو له الجو، ثم يعود فيتأخر أدبًا وحياء إذا عاد (الجو)!

أهذا شغفُ حزنِكَ!
وليس بعذر أن تُعقّب:
كَذا الدُّنْيا على مَنْ كانَ قَبْلي صُروفٌ لم يُدِمْنَ عَلَيْهِ حَالا
إن كانت دنياك أنت ومَن سبقك هكذا، فقد أنصفَتْك، وسرّتْك، وقد كذّبتَ بنفسك ادعاءك:
أتَى الزَّمانَ بَنُوهُ في شَبيبَتِهِ فَسَرّهُمْ، وَأتَينَاهُ عَلى الهَرَمِ
فإن كنتَ صادقًا فقد جئنا نحن زمانًا آخر يا أبا الطيب!
لكننا في النهاية يا صاحبي نصل للنتيجة نفسها:
أشَدُّ الغَمِّ عِنْدي في سُرورٍ تَيَقّنَ عَنهُ صاحِبُهُ انْتِقالا
فهذه هي مأساتنا الحقيقية، هذه هي الضربة القاصمة؛ إن هذه التجارب العنيفة التي تؤذينا لا تعلمنا، لكنها تزيدنا جهلًا؛ إنها تتركنا ضعفاء مهزومين نتساءل دائما: متى ننجح؟ أيمكن أن ننجح؟ أإن بدا لنا في لحظة ما أننا تخطَّينا العواقب، ووجدنا السبيل، ثم نجحنا- أإن بدا لنا نجاح ما، أيُّ نجاح أإنا قادرون على أن نكمله أم إن الوقت سيمضي، وسنعرف بعد رحيل العمر بأنّا كنّا نطارد خيط دخان!؟
إنها تتركنا يا أبا الطيب وهذه الأسئلةَ مع إجابة واحدة: إننا لن ننجح أبدًا!
أشَدُّ الغَمِّ عِنْدي في سُرورٍ تَيَقّنَ عَنهُ صاحِبُهُ انْتِقالا
صدقتَ يا صاحبي؛ إنها تضطرك لأحد أمرين: إما أن يغمّك الفشل أو أن يغمَّك النجاح غمًّا أشد؛ ليس لأن ذلك من طبيعته، ولكن لأن الخوف أصبح من طبيعتك!
وأشد من هذا وذاك يا صاحبي تلك الحيرة التي لا تنفك تُلح عليك، وإن تجاهلتَها…!
أكنتُ مخدوعًا يا أبا الطيب طوال هذه المدة! أم كنتُ غبيًا لم أرَ أمورًا كانت ظاهرة، ولا عرفتُ تفسير ما رأيتُ ورآه غيري فعرف ما كان سيحدث بعد ذلك كأنه كان يقرأ من كتاب! أم كنتُ سيئًا غلب سوئي أخلاقَ غيري حتى أَخرج منها أسوأ ما فيها وفي الدنيا! أم كنتُ هذا كله!
قد أصدّق أن ذكائي لم يسعفني بنفسه، وربما غلب سوء خلقي عليّ في فترات خلال هذه المدة، لكنني لا أصدق أن كل ما مرّ كان خداعًا، إن كان هذا كله خداعًا يا أبا الطيب فمَن الوفي الصادق! أنت مثلا! وكيف تكون وقد كنتَ تمدح أناسًا بظاهر قولك، وباطنه يذمهم أشد الذم!
إذا مَنَعَتْ منكَ السّياسةُ نَفْسَها فَقِفْ وَقْفَةً قُدّامَهُ تَتَعَلّمِ
وكيف أنت وقد كنتَ تخضع بالمدح لأناس ثم تتوعدهم بالقتل إن بعدتَ عنهم!
مدحتُ قومًا وإن عشنا نظمتُ لهم قصائدًا من إناثِ الخيلِ والحُصُنِ
إن لم يكن هذا خداعًا فماذا بربك يكون!
فإن كنتَ كذلك فلمَ أدعوك بـ “صاحبي”! إن كنتَ كذلك يا أبا الطيب فليس لك صاحب… أو ربما ليس لي أنا صاحب؛ فكيف سأصدق أنهم أوفياء بعد هذه الخدائع!
وكيف سأصدقك يا أبا الطيب إذا قلتَ:
إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَتْ ظُنونُهُ وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّمِ
وأنا أرى الظنون السيئة تهاجم الضحية كما تهاجم سيئ الفعل!
أجل، هاجَمَتْ مَن أساءَ كما تهاجمني الآن، لكن شتان ما بين ظنون مَن يغضب لأنك تقول له ما يحب سماعه، وتحجب عنه ما لن يتحمّل- وظنون من هوجم بالإفك والبهتان عن نفسه وقومه برغم إحسانه السابق، وربما بسبب إحسانه السابق، ثم أن يكون هذا الهجوم ممن لم يكن يُتوقع منه مثل ذلك قطُّ!
لا يا أبا الطيب، لم أكن مخادعًا، لكنني كنتُ إنسانًا يُعامل إنسانًا، فإن قلتُ ما في نفسي كما هو في نفسي فقد خسرتُه، وخسرتُ الناس جميعُا، ولكنني حرصتُ على أن يجد مني ما يحب، وألا يعرف مني ما يكره، وما لن يتحمّل، وهذا هو الإحسان، فأين بالله هذا من ذاك!
حركني لذلك حب الخير المحض وطلبه، ولم يحركني غيره، أفيكون جزائي مثلَ ما وجدتُ!
مُتَّ يا أبا الطيب -رحمك الله! – ولم تمتْ ألاعيبك؛ فسكبتَ على حيرتي وقودًا، وكانت مشتعلة!
كأن هذه الدنيا يا أبا الطيب لا يمكن أن تطفو إلا على بحر من المخادعة!
لكنه حتى إن كان له بعض العذر يا أبا الطيب فإن له ذنوبًا لا أعذار لها، فهَبْنا عذرناه في أنه علم مع الوقت من حقيقتنا خلاف ما كنا نظهر له من الود المبالغ فيه، أيكون له أيُّ عذر في أن يجازي هذا الإحسان بالمبالغة في الإساءة!
لكن ما الإحسان يا أبا الطيب وما الإساءة غير أن يكونا شعورين يتغيران بتغير الأشخاص والمواقف!
بذا قضَتِ الأيّامُ ما بَينَ أهْلِهَا مَصائِبُ قَوْمٍ عِندَ قَوْمٍ فَوَائِدُ
قد صدقتَ في هذا يا أبا الطيب؛ فإن الشيء قد يكون واحدًا ويختلف في نظر كل واحد.
فمَن أنا الآن يا صاحبي! أأنا الظالم أم المظلوم!
أرأيتَ هذه الحيرة يا صاحبي!؟ إنها هي وقود هذا الحزن الذي لا يتأثر بهجر أو وصال!

Related posts

Leave a Comment