نظرية الاعتقاد (4) للدكتور طارق سليمان النعناعي

خطأ تعميم السؤال (الخالقُ خلقنا فمنْ خلقَهُ؟):

يَفْتَرِضُ السائلُ منطقيةَ توحيدِ السؤالِ على الخلقِ والخالقِ معًا، وهذا خطأٌ للأسبابِ الآتيةِ:
منْ جهةِ الخلقِ السؤالُ واجبُ الطرحِ، أمَّا من جهةِ الخالقِ فغيرُ مطروحٍ أصلًا. فمن جهةِ الخلقِ السؤالُ واجبٌ؛ لعدمِ معرفتهم مَنْ خَلقَهم، ولأنه لا أحدَ منهم خلقَ نفسَهُ، حقيقةً أو ادِّعاءً، مع وجودِ مَنْ أعلنَ أنه فعلَ هذا، أي أنه خلقَهم – من خلال الديانات المنسوبة إلى السماء- ولأن المخلوقَ مخلوقٌ؛ فإنَّه لا يملكُ تغييرَ النظامِ الذي بُرمِجَ عليه، كما لا يملكُ خروجًا منه.
أمَّا من جهةِ الخالقِ فالسؤالُ غيرُ مطروحٍ؛ لأن الخالقَ نفسَهُ يعلمُ الإجابةَ، ومن ثَمَّ لا يحتاجُ إلى طرحِ السؤالِ، ثُمَّ إنَّهُ لا أحدَ مطلقًا قد ادَّعَى أنَّهُ خلقَ الخالقَ؛ أي إنَّ خلقَهُ مسألةٌ غيرُ مُدَّعَاةٍ، ولا يُعقلُ أنَّ خالقًا يخلقُ ويصمتُ، أو يتركُ ما خلقَ لغيرِهِ، فَمَا بالُنَا لو أنَّ ثمةَ خالقًا لإله؟! ولأنَّ الخالقَ خالقٌ فإنَّ له نظامًا مغايرًا ليس بالضرورةِ مما ينبغي أنْ يفهمَهُ خلقُهُ، هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى يُصبحُ السؤالُ البشريُّ دائريًّا لا ينتهي إلا ليبدأ، لو كان ثمةَ خالقٌ للخالقِ.
والسؤالُ عنْ الخالقِ يكونُ واجبًا من جهة العلةِ أو الغايةِ، فالمخلوقُ لابد له من فهمِ العلةِ من خلقِه، ومن ثَمَّ يحددُ المطلوبَ منه من قِبَلِ الخالقِ، ويحددُ الأوامرَ والنواهي. فإذا لمْ يحدثِ الخلقُ فلا علةَ، أي إنَّ السؤالَ غيرُ مطروحٍ في حقِّ الخالقِ من جهةِ انتفاءِ العلةِ.
الغايةُ منَ السؤالِ والتعويلُ على الإجابةِ:
لابد لنا أنْ نحددَ شيئين: ما الغايةُ منْ سؤالِ السائلِ؟ وعلامَ يُعَوِّلُ في الإجابةِ؟
لا يمكنُ أن تقفَ الغايةُ منَ السؤالِ عندَ حدِّ العلم فحسب، بل تتخطى الغايةُ ذلك إلى التعويلِ على الإجابةِ – إيجابًا أو سلبًا – في الاعترافِ بالخالقِ أو عدمِ الاعترافِ به. والاعترافُ بهِ يستدعي الامتثالَ لأوامرهِ ونواهيهِ، إيجابًا بالرجاءِ والخوفِ، أو سلبًا باستشعار التقصير والذنب. وعدمُ الاعترافِ به يستدعي التنصلَ من ذلك الامتثال، بالتنصل من الالتزام بأية أوامر أو اجتناب أية نواهٍ، ومن ثَمَّ التخدير الكاذب للاستشعار بالتأنيبِ والذنبِ.
عواقبُ الإجابةِ بالإيجابِ أو بالسلبِ:
لو افترضنا احتمالات لإجابة السؤال المطروح، فإننا أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما بالإيجاب وإما بالسلب. الإيجابُ يجعلُ الإجابةَ والسؤالَ في دائرةٍ لا تنتهي، والسلبُ يستدعي سؤالًا آخرَ هو: كيفَ؟ أي كيفَ لا يكونُ الخالقُ هو الأولَ ولمْ يخلقْهُ غيرُه؟ وهذا السؤال يلزمه نظامٌ قادرٌ على استيعابه، وهذا ليس متوفرا في قدراتِ المخلوقاتِ جميعًا.
عواقبُ الإجابةِ من جهةِ المصلحةِ:
جهةُ المصلحةِ للخالقِ غيرُ قائمةٍ بما يُشَكِّلُ مصيرًا أو يَرْقَى إلى دَرَجَةِ نفعِ الإلهِ أو ضرِّهِ؛ لأنه – ببساطة – يستطيعُ استبدالَ خلقٍ بخلقٍ آخر يحقق بهم ما يريد لنفسه. أما من جهة مصلحة المخلوق فقائمة من حيث: الوجودُ نفسه من عدمه، ودفعُ المخاطرِ، وجلبُ المنافعِ. فالوجود نفسه في الحياة أو الموت، ودفع المخاطر وجلب المنافع في الدنيا، ودفعها وجلبها – لمن يؤمن بالآخرة – في الآخرة.
خطأُ التعويلِ السلبيِّ على الإجابةِ:
إنه لمن الخطأ الفكري أن يعول الخلقُ على إجابة سؤال ” مَنْ خلقَ الخالقَ؟ ” للاعترافِ به أو عدم الاعترافِ به؟ لأن عدم اعترافهم ادعاءً لا ينفي وجود الخالق حقيقة، ولا يعفيهم أو ينجيهم من فعل الخالق بهم، أي أن عدم اعترافهم بحقيقة قائمة لا ينفي وجودها. وسواء للخلق أكانتْ إجابة السؤال المطروح سلبًا أم إيجابًا لا ينفي وجود قوة عظمى قاهرة فوقهم تفعل بهم ما تريد، ولا مفر ولا مهرب منها إلا إليها؛ لأن قوة الإله باقية خالدة أبدية غير زائلة.
وإن التمثيل لا يليق بحق الخالق الذي ليس كمثله شيء، لكن التمثيل للخلقِ على قدر عقولهم لتقريب المفاهيم فحسب: فَمَثَلُ غيرِ المُعْتَرِفِ بالخالقِ لأنه لم يجدْ إجابةً للسؤالِ المطروحِ ” مَنْ خلقَ الخالقَ؟ ” كمثلِ مَنْ وقفَ على قضبانِ السككِ الحديديةِ رافضًا الاعترافَ بأنَّ ثمةَ قطارًا قادمًا، أو كمثلِ مَنْ حُذِّرَ بأنَّ مكانَهُ سينفجرُ ويحترقُ كلُّ مَنْ فيهِ بعدَ دقائقَ فأنكرَ واستهزأ، إلى أن وقع ما رفض وأنكر واستهزأ. هذا في عمل الخلقِ الذي ينتهي بالإغماء والموتِ، فما بالُ الخلقِ بعملِ الخالقِ الذي بيدهِ الحياةُ والموتُ، فيملكُ ألا يموتَ خلقُهُ أو يُغْمَى عليهم لبعضِ الوقتِ وَهُمْ في أشدِّ العذابِ؟!

Related posts

Leave a Comment