هذيان للسيد شعبان جادو

تاهت مني أشياء كثيرة،تحركت البنايات العتيقة من أماكنها،الأشجار كانت فيما مضى نحيلة شاحبة الأوراق،صارت اليوم بدينة،تقف شاخصة وسط الطريق،تمنع العابرين من اجتياز الممر بينها،أف لكل هذا!

أما ثيابي فاتسعت هي الأخرى،أنا أعيش حالة من الاغتراب،نسيت اسمي،ينادونني كيفما اتفق لهم،يتضجرون من وجودي،صرت أهيم بلا غد؛لذا أشعر بأنني لا نفع لي،أخذت أتسول في كل ناحية من المدينة،الكل اتفق على كوني مستحق للرثاء،الأطعمة التي كنت محروما منها فيما مضى صارت تملأ جيب سترتي الممزقة،بقايا الفاكهة تركت آثارها فأحالتها إلى ألوان تتماوج بخيوط شتى،تسبقني بطني في ترهل ملفت للنظر،الشرطي لم يعد يمسك بي كما فعل في مرات سابقة،الآن أفسح لي في الطريق فرجة حتى لا يمسني السوء،فيما مضى كنت معتادا أن يصفعني، قاومت يديه بأن أشير بعيني للغد،أرسم شارتي في ترقب لضوء الفجر،لا أدري لم رضي عني؟
الأحلام أنسيتها مزهوا بما قدم إلي من منافع حتى لقبني الرجل المبارك،هذا اللقب فتح لي مغالق الأبواب،كان تلك هي الكوة السحرية لأن أدلف إلى ممرات عالمه الخفي،النسوة هناك بسبحن في ماء من مرمر،الرجال يقفون أمامهن في وقار،الصغار يلعبون برؤوس تشبه كرات الثلج البيضاء،العصافير هي الأخرى انطلقت تشدو بأشعار ناعمة،الأشياء تتراقص في تدلل، هذا العالم أفقدني الشعور،صرت تافها!
اختل اتزاني،كرهت أن أتثنى مثل امرأة بلهاء،ثمة شامة في جبهتي،رأيتها حين أفقت من غفوتي،إنها تذكرني بعالم آخر، ارتعشت في داخلي رغبة محمومة أن أبصق،لأول مرة يصيبني دوار جعلني أتقيأ في تتابع،أخذت أداري فعلتي،تحت الوسادة وجدت قلما وورقة بيضاء،أمسكت بهما،رسمت الحروف،تكونت كلمة وكلمة صارت جملة ذات معنى؛أنا إنسان!
استعدت ذاكرتي التي يوما توارت تحت ركام من النسيان،ظهر لي الشيطان،أحضر معه ذلك الشرطي،شعرت بصفعة على خدي،دبت في الحياة،غرست إصبعي في المحبرة ،كتبت جمة تامة،تراكم نص وراء نص،نبتت شتلة وراء شتلة،ظهر طفل وطفلة،اكتست اللوحة وجها آخر،تعددت الألوان، الحمرة غدت ملمحا يحوط إطار الصفحة،بدا لي أنني أرى الأشجار في مكانها،البنايات التي شاخت يوما تستعيد عمرها الماضي،سترتي الداكنة تجملت،الكآبة التي كنت أعيش فيها بدأت ترحل،الآن عاد إلي اسمي،غادرني اللقب الموشى بالسذاجة،حتى جسدي الذي اختزن كل أطعمة الشتاء استعاد شكله،الكوة المسحورة أوصدتها،أعلم أن الكثيرين تمنوا ما كنت فيه بالأمس.
عدوت في ممرات المدينة ذات الملاط الأسود المصنوع من حجارة البازلت،كنت حافيا،في فرجة بينها تبرز نتوءات حديدية،أدمت قدمي اليمنى،ألجأني التعب إلى جذع نخلة عجوز،بدأت أتسلى بالحفر في الأرض المحيطة به،لاحت لي عروس النهر،أحضرت معها زنبقة جميلة،اختالت بعطرها،هممت أن أقبلها فتمنعت،وهبتني نسمة حلوة،تبعتها مسرعا،يممت جهة الشمس،تعالت في زهو،صعدت فوق الجذع،رأيت العصفورة هناك تطعم بلبلا ،الأحلام ملأت واجهة السماء،الشرطي تقاصر،الأرض انشق بها أخدود،قدماه تغوصان،يعلو نحيبه،يبكي في حرقة!

Related posts

Leave a Comment