كتاب العَروض للأخفش نقد الدكتور عمر علي خلوف

كتاب العَروض للأخفش،
أبي الحسن سعيد بن مسعدة،
تحقيق أحمد محمد عبدالدايم عبدالله،
نشرة المكتبة الفيصلية بمكة المكرمة، 1985م.

الخليل بنُ أحمدَ الفَرَاهِيدِيُّ – (ت 175هـ) – عبقريةٌ خالدة، تركت بصماتِها المتميزةَ على معظم علوم العربية؛ تأصيلاً لنَحْوِها، وابتكارًا لمعاجمها، وتَقْنِينًا لموسيقاها، ويَكفيه أنه أوَّلُ مخترِعٍ لعلم العَروض، الذي ما زال – منذ وَضَعَهُ – لا يؤخذ إلا عنه، إلا أنَّ كتابه في العَروض هو مما ضاع من تراثنا الثمين، ولم يبق منه إلا ما نقله العَروضيون عنه[1].
ولقد ظل ظهور كتابٍ في العَروض لأحد تلامذة أو معاصري الخليل أَمَلاً عزيزًا يراوِد عقول العلماء؛ لأن مثل ذلك الكتاب سيَسُدُّ – إلى حدٍّ كبير – الثغرةَ التي تركها فقدان كتاب العَروض للخليل، فكيف إذا كان مِثْلُ هذا الكتاب لِعَلَم من أعلام العَروض؛ كأبي الحسن: سعيد بن مسعَدَةَ الأخْفَشِ، الذي قلَّ أن تجد عَروضيًّا بعدَهُ لم ينقل عنه، أو يُشِرْ إليه.
ولا شكَّ أنَّ لنشر كتاب العَروض للأخفش أهميَّةً جِدَّ بالغةٍ في إماطة اللِّثام عن بعض المسائل التي كانت مُثارة حول عَروض الخليل، إبَّان وَضْعِهِ وانتشاره، تأييدًا لآرائه أو مخالَفَةً لها، كما أنَّ لها كبيرَ الأثر في وَضْعِ النقاط على الحروف في كثير منَ القضايا العَروضية التي لا تزال حتى اليوم مَوْضِعَ خلاف بين علماء العَروض.
ونظرًا لأهميَّة الكتاب، ووُجوبِ العناية به، رأيتُ من واجبي إبداءَ هذه الملاحظاتِ؛ تجليةً لمُبْهَمِهِ، وتصحيحًا لبَعض ما جاء فيه من أخطاءِ التَّحقيق وأوهامه – وهي كثيرة – راجيًا أن يَتَّسِع لها صدْرُ مُحقِّقِنا؛ فيقبَلَ منها الحقَّ، ويستدْرِكَ به على ما يَزيد في إبراز هذا الأثر الجليل.
مقدمة المحقِّق:
بدأ المحقِّق الكتابَ بمقدِّمة موسَّعة، شارَفَتْ على مائة صفحة، تَحَدَّثَ فيها عن حياة الأخفش، وعصرِهِ، وشُيوخه، وتلاميذه، ومؤلَّفاته، مركِّزًا حديثَهُ على الكتاب مَوْضِعِ التحقيق، مُبَيِّنًا أهمّيَّتَهُ وقيمته، وواصفًا مخطوطته، ونِسبتها إلى مؤلفها، ومنهجَ الأخفش وملامحَ أُسلوبه فيه، ثم جُهْدَهُ في تحقيقه.
وعَقَدَ المحقِّق فصلاً خاصًّا ناقش فيه قضيَّة ما ينسب إلى الأخفش منِ استدراكه (البحرَ المتداركَ) على الخليل، وإنكارِه بُحُورَ (المضارع والمُقْتَضَب والمُجْتَثِّ)، فنفى هاتِهِ النسبةَ، اعتمادًا على ما جاء في هذا الكتاب.
وكان لنا حول هذه المقدمة ملاحظات وانتقادات:
فلِكي يؤكدَ المحقِّق نِسبة الكتاب إلى مؤلِّفه “بصورة قاطعة، لا تَقبَلُ أن يتطرَّق الشكُّ إليها” كما يقول (ص 63)ØŒ راح يقارن بين أقوال الأخفش في الكتاب، وبين نُقُولٍ منسوبةٍ إليه في كتب العَروض الأخرى، قائلاً: “حيث وفقني الله تعالى إلى نُقُولٍ منسوبةٍ إلى الأخفش، وجدتُها بنصها تمامًا في مخطوطة “العَروض””.
ولكن ليس في كُلّ ما نَقَلَهُ المحقِّقُ عن كتاب “البارع” لابن القَطَّاع ما جاء بِنَصِّه – ولا بِرُوحِه – في مخطوطة “العَروض”Ø› بل إنَّ المحقِّق أَوْرَدَ نُقولاً عنه لم يَنْسُبْها إلى الأخفش، وإن تَشابَهَ الحكم العَروضيُّ في بعضها مع ما جاء في كتاب الأخفش.
1- فمن ذلك ما نقله من قول ابْنِ القَطَّاع في البحر المديد (البارع 107): “وقد جاء عنِ العرب عَروض الثاني مخبونةً، وأجاز الأخفشُ خَبْنَ هذا الضرب، ولم يُجِزْهُ الخليل”.
وواضح من كلام ابن القَطَّاع أنه يقصد العَروض الثانية للمديد (فَاعِلُنْ)ØŒ وهذا ما أشار إليه الشَّنْتَرِينِيُّ أيضًا بقوله (المعيار 41): “وقد شذَّ الخَبْن في العَروض الثانية”ØŒ إلا أن فهم المحقِّق لهذا النَّصّ كان خاطئًا تمامًا، عندما تَوَهَّمَ أنَّ ابْنَ القَطَّاع كان يتحدَّثُ عن (فَاعِلاتُنْ)Ø› فقال: “وهذا فعلاً ما قاله الأخفش، وأجازَهُ في كتابه .. [بقوله]: فحَذْفُ أَلِفِ (فَاعِلاتُنْ) التي لا تعاقب أحسنُ”.
والوَهْمُ الأغرب؛ أن يكون نصُّ الأخفش هذا إنَّما يتحدَّث عن (فَاعِلاتُنْ) في بحر الرَّمَل (ص 151) لا المديد!! بل إنَّ الجزء الذي يتحدَّث عن المديد مخرومٌ من الكتاب أصلاً!!.
ولذلك كلِّه؛ فلا حُجَّة للمُحقِّق في هذا النص أبدًا، علمًا بأنه عاد فكرَّر هذه الحُجَّةَ بِحذافيرها في الفقرة الخامسة من حُجَجِهِ (ص 65)، دون أن ينتبه إلى ذلك!!.
2- وفي حُجَّته الثانية: أشار المحقِّق إلى أنَّ ابنَ القَطَّاع يُجوِّز (الإضمار) في سائر أجزاء البحر الكامل، مستَشْهِدًا بقول عنترة:
إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ خَيْرِ عَبْسٍ مَنْصِبًا شَطْرِي، وَأَحْمِي سَائِرِي بِالْمِنْصَلِ
وأن الأَخْفَشَ استشهد بالبيت ذاتِهِ على الزِّحَاف نفسِهِ، ولا حُجَّة للمحقِّق هنا؛ لأن ابن القَطَّاع لم يُصرِّحْ أو يُشِرْ إلى نَقْلِهِ ذلك عنِ الأَخْفَشِ، والشاهد المذكور هو من شواهد الخليل؛ كما صرَّح بذلك ابنُ عَبْدِ رَبِّهِ (العِقْد 6/330)، واستشهد به الأَخْفَشُ نقلاً عن الخليل.
3- ونقل المحقِّقُ عنِ ابن القَطَّاع أيضًا قولَهُ في البحر الطويل (البارع 101): “وأجاز الأخفش فيه ضَرْبًا رابعًا مقصورًا (مَفَاعِيلُ)”. دون إشارةٍ منه إلى ما يقابل هذا القولَ من كتاب الأَخْفَشِ، ولا مكانَ لِمِثْلِ ذلك فيه؛ لأنَّ الجزء الذي يَتَحَدَّث عن البحر الطويل مخروم منَ الكتاب أَصْلاً.
4- وفِي حُجَّةِ المُحقِّق الرابِعة عِدَّةُ أوهامٍ مجتمِعَةٍ؛ ذلك أنَّ الأخفش – رحمه الله – كان في البحر المديد يَعُدُّ الضَّربَيْنِ (فاعِلُنْ وفَعِلُنْ) مع العَروض (فاعِلُنْ) شاذَّيْنِ، وقد صَرَّحَ بذلك ابن القَطَّاع (البارع 103) بقوله بعد الضَّرْبَيْنِ المذكورَيْنِ: “وهذا الضَّرْبُ والذي قبلَهُ شاذَّان عند أبي الحسن الأخفش”. وهذا ما قاله الشَّنْتَرِينِيُّ عنهما أيضًا (المعيار 39).
وقد أراد المحقِّقُ أن يجد لهذا الكلامِ مستَنَدًا في كتاب “العَروض”Ø› فقارنه بقول الأخفش (ص 151): “والمديدُ الذي فيه (فَاعِلُنْ وفَاعِلانْ) لم نسمع منه شيئًا؛ إلا قصيدةً واحدة للطِّرِمَّاح..”. فتوهَّم أنَّ الضَّرْبَيْنِ الشاذَّيْنِ عند الأخفش هما (فَاعِلُنْ وفَاعِلانْ).
وواضحٌ تمامًا أنَّ الأخفش في عبارته السابقة، كان يشير إلى نوع واحد من المَدِيدِ، ذي العَروض (فَاعِلُنْ) والضرب (فَاعِلانْ)، بدليل إشارته الصريحة إلى قصيدة الطِّرِمَّاح التي يقول فيها:
إِنَّمَا ذِكْرُكَ مَا قَدْ مَضَى ضِلَّةٌ مِثْلُ حَدِيثِ الْمَنَامْ
وإشارته تلك تدلُّ على القِلَّة لا على الشذوذ، وذلك مما قاله الشَّنْتَرِينِيُّ عنه (المعيار 38): “وهو قليل في أشعار العرب”.
بل إنَّ وَهْمَ المحقِّق كان هنا كبيرًا جدًّا، حيث عَمَدَ – في تحقيقه لكتاب “البارع” لابْنِ القَطَّاع – إلى نقل عبارته السابقة من موقعها الصحيح – أي: بعد الضربين الثالث والرابع – إلى موقع خاطئ – بعد الضربين الثاني والثالث – اعتمادًا على خطئه في فهم عبارة الأخفش السابقة، قائلاً (البارع 103ØŒ هامش 5): “ذكر ابن القَطَّاع هذه العبارةَ بعد حديثه عنِ الضرب الرابع، مما يُوقِعُ في اللَّبْسِ بأنَّ المقصود منَ الشذوذ عند الأخفش الضربُ الرابعُ والثالث، وحينما رجعتُ إلى كتاب العَروض للأخفش؛ وجدتُهُ يتحدث عنِ الضرب الثاني (فَاعِلانْ) والضرب الثالث (فَاعِلُنْ)ØŒ وعليه نقلت هذه العبارة إلى مكانها الحالي”!!.
5- ونَقَلَ المحقِّق (ص 67) عن الدَّمَامِينِيِّ قولَهُ (الغامزة 66): “حكى الأخفش: أن للهَزَج ضربًا ثالثًا مقصورًا [مَفَاعِيلْ]ØŒ وبيته:
وَمَا لَيْثُ عَرِينٍ ذُو أَظَافِيرَ وأَسْنَانْ
أَبُو شِبْلَيْنِ وَثَّابٌ شَدِيدُ الْبَطْشِ غَرْثَانْ
هكذا روي بإسكان النون، قالوا: والخليل يأبى ذلك، ويُنْشِدُهُ على الإطلاق والإقواء”:
ولم يجد المحقِّقُ لِهذا النَّصّ ما يَدْعَمُهُ من كتاب الأخفش؛ فقال: “بذلك صرَّح ابن القَطَّاع، وهو خير عليمٍ بآراء الأخفش وكتابه”!!.
وليس في ذلك أيَّةُ حُجَّة للمحقِّق؛ لأنَّ مثل هذا النَّصّ غير موجود في كتاب الأخفش هذا وإن حُكِيَ عنه.
6- ووجود بعض الأحكام العَروضية عند ابن القَطَّاع – أو سواه، والتي ذكرها الأخفش في كتابه، ليس دليلاً على أنَّ الأول أخذها عن الثاني، ما لم يشر الناقل إلى ذلك، أو ما لم تكن هنالك قرينةٌ تدلّ على ذلك، كأن يكون رأي الأخفش فيها متميزًا، ومخالفًا للخليل.
فقول ابنِ القَطَّاع (البارع 149): “وفي الهَزَج المعاقبة بين ياء (مَفاعِيلُنْ) ونونه”ØŒ وقول الأخفش (ص 147): “وأمَّا الهَزَج فتعاقب في (مَفَاعِيلُنْ) الياءُ النونَ”[2].
وكذلك قولُ ابن القَطَّاع في الرَّجَز (البارع 154): “يجوز في سائر أجزائه الخَبْن والطيُّ”ØŒ مقابل قول الأخفش (ص 149): “ومُفْتَعِلُنْ ومُفَاعِلُنْ فيه حسنان”ØŒ لا يعيِّن أبدًا أن ابن القَطَّاع قد نقل ذلك عن الأخفش؛ لعدم توافُر القرينة التي تدل على ذلك؛ ولأن مثل هذه الأحكام منقولة أصلاً عن الخليل.
وأمَّا ما نقله المحقِّقُ (ص 66) عن المعرّي، حول قول القائل:
أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرَيَاهُ كِلانَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ
بأن الأخفش أنشد (تَرَيَاهُ) بالتخفيف[3]ØŒ فتِلْكَ حُجَّة صحيحة ومقبولة في إثبات بنوَّة الكتاب لصاحبه، فالأخفش في كتابه (ص 142) يقول: “ولَوْ سمعت مثل هذا البيت – لا أدري أتهمزه العرب أم لا – حملته على ترك الهمز [أي: على التخفيف]Ø› لأنه الأكثر، ولا أرى الذين همزوا إلا لم يسمعوه من العرب؛ فإنَّما همزوه فرارًا من الزِّحَاف”.
ومثل ذلك ما نقله المحقِّق (ص 68) عن تشابُه الأسلوب والأفكار في كتاب “العَروض”ØŒ مع الأسلوب والأفكار في كتاب “معاني القرآن” للأخفش، حيثُ ضَرَبَ لذلك عددًا من الأمثلة المقبولة.
وها أنذا أقدّم لمحقِّقنا عددًا من الأدلة القوية التي تثبت لنا صحة نسبة الكتاب للأخفش:
Ø£- ففي كتاب “القوافي” للأخفش (ص 101) يقول: “لأن قومًا من العرب يقولون: هذا خالده، فيثقلون في الوقف” وجاء في كتاب “العَروض” (ص118) قوله: “وقد ثقل قوم في الوقف فقالوا: خالده”.
ب- وفي كتاب “القوافي” كذلك (ص107) – باب: ما يجتمع في آخره ساكنان في قافية – يقول الأخفش: “وذلك لا تبنيه العرب، إلا أن يجعلوا الأول منهُما حرف لين”. ويقول في كتاب “العَروض” (ص 120): “وقد يجمع بينهما في بعض القوافي، ولا يكون الأول في ذلك إلا حرف لين”.
ج- وفي كتاب “القوافي” أيضًا (ص 12): أجاز الأخفشُ سقوط نون (فَعُولُنْ) الَّتي تسبق الضرب (فل) أو (فع) من بحر المتقارب، قال: “وكان الخليل لا يجيز سقوط نون (فَعْولُنْ) بعدها (فل) .. ولا أراه إلا محتملاً”. وفي كتاب “العَروض” (ص 164) قال الأخفش عن هذا الزِّحَاف: “وهو مع قُبْحِه جائز”.
د- وقد جاء في كتاب “الجامع في العَروض والقوافي”[4] لأبي الحسن العَروضي، قوله في الهَزَج (ص 204): “وكان الخليل لا يرى حذف الياء جائزًا في عَروض الهَزَج .. لأنها إذا صارت (مَفَاعِلُنْ)ØŒ ثم توالت الأجزاء فسقطت خوامسها، فإن ذلك يشبه الرَّجَز، وأجاز ذلك الأخفش”. كما جاء في “المعيار” أيضًا (ص 61) قول الشنتريني فيه: “وقد شذَّ قبض العَروض [أي: مجيئها على مَفَاعِلُنْ]ØŒ شاهده:
مَنَاقِبٌ ذَكَرْتُهَا لِطَلْحَةَ الشَّرِيفِ
والأخفش وأبو إسحاق يجيزانه، والخليل يمنعه؛ لئلا يلتبس بالرَّجَز”.
وذلك ما قاله الأخفش فعلاً في كتابه (ص 147): “وكان الخليل لا يجيز ذهاب ياء (مَفَاعِيلُنْ) التي للعَروض، ويقول: “العَروض تشبه الضرب، والضرب لا زِحَاف فيه”ØŒ ويقول: “أكره أن يكثر (مَفَاعِلُنْ) فيشبه الرَّجَز”. ويردُّ الأخفش على أقوال الخليل هذه بقوله: “فكيف هذا وفي آخر جزء لا يكون (مَفَاعِلُنْ)ØŸ! [يقصد الضَّرْبَ]ØŒ وكيف يجيز طرح الياء في موضع ولا يجيزها في موضع؟!”.
[وجديرٌ بالذكر هنا أن الضرب في البيت السابق هو (فَعُولُنْ)، وليس (مَفَاعِيلُنْ)؛ ولذلك التبس البيت بالرَّجَز فعلاً، ولا يخفى أن الأخفش كان يشير إلى الضرب (مَفَاعِيلُنْ)، لا (فَعُولُنْ)].
هـ- وفي الهَزَج أيضًا، يقول أبو الحسن العَروضي (الجامع 204): “وكان الخليل يرى أن حذف الياء – [من مَفَاعِيلُنْ] – أحسن، والأخفش يخالفه، ويرى أن حذف النون أحسن .. لأنها تعتمد على وتدٍ بعدها”ØŒ أي: وتد (مَفَاعِيلُنْ) التالية.
وفي كتاب “العَروض” (ص 147) يقول الأخفش: “وحذف النون أحسن من حذف الياء؛ لأنَّ النون تعتمد على وتد، والياء تعتمد على سبب”.
Ùˆ- وفي “الجامع” (ص 205): “وأمَّا الرَّجَز؛ فزعم الأخفش أن حذف السين والفاء أحسن من حذفهما في البسيط … لأن هذا شعر كثر استعماله، وخفَّ على ألسنتهم؛ فاحتمل الحذف، وإنَّما وضع للحُدَاة في أوقات أعمالهم؛ فكان المحذوف منه أخفَّ عليهم، نحو قول الشاعر:
هَلاَّ سَأَلْتِ طَلَلاً وَحُمَمَا
وهذا ما جاء في كتاب “العَروض” (ص 149): “فـ(فَعَلَتُنْ) فيه أحسن منه في البسيط والسريع؛ لأن الرَّجَز يستعملونه كثيرًا، وإنما وضعوه للحُداء، والحُداء [غناؤهم[5]] وكلامهم إذا كانوا في عمل أو سوق إبل، فالحذف مما يكثر في كلامهم أخفُّ عليهم، قال:
هَلاَّ سَأَلْتِ طَلَلاً وَحُمَمَا
ز- وفي الرَّجَز أيضًا يقول العَروضي (الجامع 205): “وحذف السين أحسن عند الخليل، والأخفش يرى أن حذف الفاء أحسن؛ لاعتماده على الوتد الذي بعده”.
والأخفش يقول في كتابه (ص 149): “ولا أعلم (مُفْتَعِلُنْ) فيه إلا أحسن؛ لأنك ألقيت حرفًا يعتمد على وتد”.
Ø­- وفي الرَّمَل؛ يقول العَروضي (الجامع 205): “وزعم الأخفش أن الزِّحَاف يجوز في (فاعِلانْ وفاعِلُنْ).. ولم يُجِز ذلك في المديد… [لأنَّ الرمل] كثر استعماله؛ فاحتمل الزِّحَاف، والمديد قلَّ؛ فقل فيه الحذف”.
وفي كتاب “العَروض” (ص 151): “فإنما أجازوا الزِّحَاف في (فَاعِلُنْ وفَاعِلانْ).. لأن الرَّمَل شعر كثير تستعمله العرب، والمديد الذي فيه (فَاعِلُنْ وفاعِلانْ) لم نَسمع منه شيئًا، إلا قصيدة واحدة للطِّرِمَّاح، فما كان أكثر كان الحذف فيه أجود”.
Ø·- وفي السريع يقول العَروضي (الجامع 206): “وكان الخليل لا يرى الزِّحَاف في (فَاعِلانْ)ØŒ ويقول: “هذا الجزء قد لحقه تغيير بعد تغيير… وذلك أن أصله (مَفْعُولاتُ)ØŒ فحذف الواو؛ فبقي (مَفْعُلاتُ)ØŒ ثم أسكنت التاء، ونقل إلى (فاعِلانْ). Ùˆ(فاعِلُنْ) أيضًا لا يجوز فيه الزِّحَاف عنده؛ لأن أصله (مَفْعُولاتُ)ØŒ فحذفت الواو والتاء؛ فبقي (مَفْعُلا)ØŒ فنقل إلى (فَاعِلُنْ) .. وأما الأخفش؛ فزعم أن الزِّحَاف لم يدخل (فَاعِلُنْ)… لئلا تشبه هذه العَروض العَروض التي على (فَعِلُنْ)”.
وفي كتاب “العَروض” (ص 155) أورد الأخفش رأيَ الخليل ذاتَه، ثم قال: “وما أرى ترك الزِّحَاف في (فَاعِلُن) … إلا لئلا يختلط بالعَروض الأخرى”. [يقصد فَعِلُنْ].
ÙŠ- وجاء في كتاب “الجامع” لأبي الحسن العَروضي (ص 207) قوله في الخفيف – وانظر “المعيار” للشنتريني (ص 82) -: “وكان الأخفش يُجيز حذف النون من (فَاعِلاتُنْ)ØŒ والسين من (مُسْتَفْعِلُنْ).. وأنشد في ذلك بيتًا – زعم أنه جاهليٌّ – حذفت منه النون من (فَاعِلاتُنْ)ØŒ والسين من (مُسْتَفْعِلُنْ)ØŒ وهو:
ثُمَّ بِالزَّبَرَانِ دَارَتْ رَحَانَا وَرَحَى الْحَرْبِ بِالْكُمَاةِ تَدُورُ
وقدْ وردتْ هذه الإجازة فعلاً في كتاب “العَروض” (ص 159)ØŒ مع اختلافٍ ضئيلٍ في رواية البيت، وذلك في قوله: “وما أرى سقوط نون (فَاعِلاتُنْ) وبعدها (مُفَاعِلُنْ) إلا جائزًا، وكان الخليل – زعموا – لا يجيزه … وقد جاء شعرٌ جاهليٌّ ذهبتْ فيه النُّون [من فَاعِلاتُنْ]ØŒ وبعدها (مُفَاعِلُنْ)”ØŒ قال:
ثُمَّ بِالدَّبَرَانِ دَارَتْ رَحَانَا وَرَحَى الْحَرْبِ بِالْكُمَاةِ تَدُورُ
وفي المقدمة (ص 62) ذكر المحقِّق أنه ورد في أسفل الصفحة الأخيرة من المخطوطة جمعٌ لأسماء البحور في بيتين من الشعر، أوردهما المحقِّق مكسورَيْن هكذا:
طَوِيلٌ مَدِيدٌ والْبَسِيطُ ووَافِرٌ وكَامِلٌ وَأَهْزاجٌ والأَراجِيزَ أَرْسِلِ [!!]
سَرِيعٌ مُسَرَّحٌ والْخَفِيفُ مُضارِعٌ وَمُقْتَضَبٌ وَالْمُجْتَثَّ قَرِّبْ لِتَفْضُلِ [!!]
وبالرجوع إلى صورة آخر قطعة من المخطوطة، ,التي أثبتها المحقِّق في مقدمة التحقيق (ص 13) تبين لي وجه الخطأ فيهما، وصحيح البيتين هو:
طَوِيلٌ مَدِيدٌ وَالْبَسِيطُ وَوَافِرٌ وَكَامِلُ أَهْزَاجِ الأَرَاجِيزِ أَرْمَلُ
سَرِيعٌ فَسَرِّحْ وَالْخَفِيفُ مُضَارِعٌ وَمُقْتَضَبَ الْمُجْتَثِّ قَرِّبْ لِتَفْضُلِ
بحذف الواوات الثلاثة ما بين (كامل) Ùˆ(أهزاج)ØŒ وما بين (أهزاج) Ùˆ(الأراجيز)ØŒ وما بين (مقتضب) Ùˆ(المجتث)ØŒ وبإثبات (أرمل) التي تدل على بحر الرَّمَل، بدل (أرسل) المصحَّفة، وإثبات (فسرح) بدل (مسرح)Ø› لأنه أكثر مناسبة للموضع – على الرغم من غموضها في المخطوطة. علمًا بأنَّ البيتين جاءا بخطٍّ مختلفٍ.
نص الكتاب:
ويتألف متن الكتاب من مقدمة مقْتَضَبة، أشار فيها الأخفش إلى غاية كتابه؛ فقال (ص 111): “هذا كتابُ ما يُعرف به وزن الشعر، واستقامته من انكساره”. عقد بعدها عدة أبواب، شرح فيها لوازم هذه المعرفة.
1- فالباب الأول (ص 112): لمعرفة الحرف الساكن والمتحرك.
2- والباب الثاني (ص 113): لمعرفة الحرف الثقيل [المشدَّد] والخفيف.
3- والباب الثالث (ص 115): لمعرفة التهجئة، وأن المعوَّل في وزن الشعر على “ما جرى على اللسان في الإدراج”.
4- والباب الرابع (ص 117): لمعرفة كيفية الابتداء والوقف .
5- في الباب الخامس: “جمع المتحرك والساكن” (ص 120) قرَّر الأخفش أنه: “لا يجتمع في الشعر خَمسةُ أحرف متحركة”ØŒ “كما لم يُجْمَع بين ساكنين”.
6- أما الباب السادس (ص 123)ØŒ وهو باب (تفسير الأصوات): فبيَّن فيه أن الكلام أصوات مؤلَّفة، أقلُّها الحركة، ثم الحرف الساكن”Ø› “لأن الحركة لا تكون إلا في حرف”ØŒ ثم الحرف المتحرك؛ “لأنه حرف وحركة”ØŒ وأن أقل ما ينفصل من الأصوات حرفان؛ متحرك فساكن.
وكان طبيعيًّا هنا أن يتحدث عن “إجراء الشعر وتأليفه” من الأسباب والأوتاد.
7- وكان الباب السابع (ص 126) في: “تفسير العَروض، وكيف وضعت، والاحتجاج على من خالف أبنية العرب “ØŒ وهو باب كنا نرى أن يكون موقعه مقدمة الكتاب أو خاتمته.
8- وفي الباب الثامن (ص133) “باب تفسير أول الكلمة وآخرها”: تحدث عن أَلِفَات الوصل والقطع، وعلامة كل منهما، كما تحدث فيه عن هاءات الوقف والتأنيث.
9- وخصَّص الباب التاسع (ص137) لموضوع “الضرورات الشعرية”ØŒ وقد خُرم الجزء الأخير من هذا الباب، ونَظُنّ أنَّ ما خُرم منه أكثر مما بقي.
10- وقد تضمَّن الجزء المتبقي من الكتاب ملاحظات خاطفة حول زِحَافات البحور – كلٌّ على حدةٍ – وقد خُرم منه الملاحظات الخاصَّة ببحور الطويل، والمديد، والبسيط، وبداية الوافر.
وكان لنا حولَ نصّ الكتاب عددٌ من الملاحظات والانتقادات، اتصل بعضها بمتن الكتاب، وبعضه بأوهام التحقيق وأخطائه:
أولاً- ملاحظات تتعلَّق بِمتن الكتاب:
1- فأوَّل ما يلفت الانتباه في كتاب الأخفش: توسعه في شرح لوازم هذا العلم ومقدماته؛ كمعرفة الساكن والمتحرك، والخفيف والثقيل، والابتداء والوقف ..، وأهم من ذلك كله: باب تفسير الأصوات، الذي ميَّز فيه بين الأصوات اللغوية المختلفة؛ كالحركة والساكن والمتحرك، وما يتألف منها عن مقاطع، تمييزًا يقترب إلى حدٍّ كبير مع مبادئ الدراسات الصوتية الحديثة.
2- ويلفت الانتباه أيضًا: أن الأخفش ناقش العديد من قضايا الزِّحَاف والعلة دون أن يتعرَّض إلى ذكر أسمائها أو مصطلحاتها!! كقوله مثلاً: “فحذف ألف فَاعِلاتُنْ..”ØŒ Ùˆ: “جاز إلقاء السين..”ØŒ Ùˆ: “حسن ذهاب الفاء …” الخ. وهي طريقة أصبح طلاب العَروض في أمسِّ الحاجة إليها؛ لأنها – مع وفائها بالغرض من تعلم العَروض – تبعدهم عن تقعُّر المصطلحات وكثرتها.
3- أشار الأخفش في باب “جمع المتحرك والساكن” (ص 120) إلى أن: “أحسن ما يكون الشعر أن يُبنى على متحركَيْن بينهما ساكن [وهو الوتد المفروق (/5/)]ØŒ أو متحركَيْن بين ساكنَيْن [وهو الوتد المجموع (5/ /5)]”ØŒ وأنه “إذا كثرت سواكنه ومتحركاته على غير هذه الصفة قَبُحَ”ØŒ وأن “كثرة المتحركات أحسن من كثرة السواكن”.
إلا أنَّ الأخفش لم يضرب على ذلك المثل، ولا أشار إلى البحور التي بنيت على مثل هذه الصفة، ولا التي خالفتها.
4- وفي باب “تفسير الأصوات” (ص124): تحدث الأخفش عن السبب الخفيف (/5) دون أن يسمِّيه، فقال: “والسبب حرفان؛ الآخر منهما ساكنٌ”ØŒ وبيَّن أنه: “قد يقرن السببان فيكون: (فُلْ فُلْ)ØŒ وهو صدر (مُسْتَفْعِلُنْ)ØŒ وهما السببان المقرونان. ويكونان مفروقين؛ فيكون سببٌ في أول الجزء، وسببٌ في آخره” كما في (فَاعِلاتُنْ).
ولكنه عندما تحدث عن السبب الثقيل (/ /) دعاه بالمفروق، بقوله: “ويكون السبب المفروق متحرك الثاني …”. وهذا يوحي أن السبب الخفيف عنده هو المقرون أيضًا، مِمَّا يعني أنَّ لمصطلحَيْ (الافتراق والاقتران) عند الأخفش دلالتين؛ الأولى: لغوية، والأخرى: اصطلاحية، وهذا خلطٌ في المصطلحات، قد يوقع المتلقي في الحيرة واللبس.
5- وفي باب “تفسير العَروض، وكيف وضعتْ، والاحتجاج على من خالف أبنية العرب” (ص126): كان الأخفش كما نَظُنّ أوَّلَ من أغلق باب التجديد في أبنية الشعر العربية، ذلك أنَّ المخترع الأول للعَروض، لم يكن – بعقليته الفذة – ليسدَّ ذلك الباب كما صرَّح بذلك ابن عبد ربه (العقد 6/288).
يقول الأخفش في ذلك: “فما وافق هذا البناءَ الذي سمَّته العرب شعرًا في عدد حروفه – ساكنةً ومتحركةً – فهو شعر، وما خالفه – وإن أشبهه في بعض الأشياء – فليس اسمه شعرا” وكانت حجته في ذلك: “أن الأسماء لا تقاس”ØŒ يقول: “ألا ترى أن الحائط مرتفع من الأرض، وليس كل ما ارتفع من الأرض فهو حائط؟! لأن الدكان والرابية مرتفعان من الأرض، وليسا حائطين؛ فمن زعم أن كل ما ألَّفَهُ شعرٌ لأنه مؤلَّفٌ؛ فليقل: إن الدكان حائط لأنه مرتفع من الأرض، وليقل: إن الخطبة والرسالة شعرٌ لأنه مؤلَّف ..”!!
وفي هذا الكلام قياس فاسد، ومُماحكة سفسطائيَّة؛ لأنَّ قِياسه على إحدى صفات الحائط – وهي الارتفاع من الأرض – قياسٌ واضحُ القصور؛ (فحائط الأخفش) اسم يدل على متشابهات عديدة، كالحائط الطويل والحائط القصير، والحائط المرتفع أو المنخفض، والحائط المبني من الطين أو الحجارة أو الخشب، وقُلْ مثل ذلك في قياسه على صفة (التأليف) في الشعر والخطبة والرسالة؛ فهُنالك اختلافات في طرق التأليف والبناء.
إنَّ الشّعر هو: الكلام المبني على طريقة العرب في تأليف أجزائه (التفاعيل)، وكل ما بُني على هذه الطريقة سُمِّي شعرًا، طال أم قصر.
انظر إليه: كيف يسمِّي كلامَ الحَضَرِ عربيًّا، اعتمادًا منه على أنه مؤلَّف من حروف العرب، أي: اعتمادًا على مكوناته العربية، ولكنه ينظر إلى الشعر بطريقة مختلفة؛ فلا ينظر إلى مكوناته الحقيقية (وهي التفاعيل)؛ بل يعدُّه مكونًا من أبيات تفسدها الزيادة والنقصان في أطوالها!! ولو أنه نظر إلى مكوّنات الشعر الحقيقيَّة؛ لأصبحتِ المُقارَنَةُ والمُقايسة أَكْثَرَ واقعيَّة وعدالة، ولعدَّ ما بني على هذه المكوّنات شعرًا، وإن خالف أبنية العرب طولاً وقِصَرًا.
وقد نصر الزمخشريّ (القسطاس 21) مذهب الخليل في: “أن بناء الشعر العربي على الوزن المخترَع لا يقدح في كونه شعرًا عند بعضهم”ØŒ مشيرًا إلى أنَّ هنالك أيضًا من ناصر هذا المذهبَ غيره، ولكنَّ الغريب أن يقف محقِّقنا موقف الأخفش من هذه القضية التي عفا عليه الزمن، وخاصَّةً بعد أن زاد عدد الأبنية الشعرية مئات المرات على ما أثبته الخليل.
6- وفي ما يُسمى ظلمًا: مَنْهُوكَ الْمُنْسَرِح (مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُولات) Ùˆ(مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُولُنْ)ØŒ يقول الأخفش (ص 157): “وذهاب الفاء من (مَفْعُولات ومَفْعُولُنْ) فيه صالح؛ لأنه يُرتَجز به؛ فيكثر استعماله؛ فيجوز حذفه”. ولكنه يعود فيناقض قوله – مباشرة – بقوله: “Ùˆ(فَعُولاتْ) فيه قبيح، وقد جاء، قال الشاعر:
لَمَّا الْتَقَوْا بِسُولافْ
فهو يصف (فَعُولاتْ) مرة بالصلاح، وأخرى بالقبح!!.
ثانيًا – ملاحظات تتعلَّق بأوهام التحقيق:
فبِمقارنة التحقيق مع صور المخطوطة الأربع، التي أثبتها المحقِّق في أول الكتاب (ص 12 – 13)، تبيَّن لي خروج المحقِّق على أصل المخطوطة مرَّاتٍ عدَّةً، نقصًا، أو تبديلاً، أو تغيير ضبطٍ، دون مُبَرّرٍ ذَكَرَهُ، أو إشارةٍ منه إلى ذلك.
* فقد أنقص من صفحة العنوان (ص109) سطرًا كاملاً، وذلك قوله: “بجاه سيدنا محمد – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-“.
* وجاء في (ص 111): “لا يكون في الحروف غير هذا من شيء من اللفظ …”ØŒ والجملة في المخطوطة: (.. غير هذا في شيء من اللفظ …”.
* ومثله ما جاء في (ص 138): “والهاء من غير هذا …”ØŒ وهي في المخطوطة: “.. في غير هذا”.
* وفي الصفحة (112): “ألا ترى أن راء (بَرْد) لا تستطيع أن تنقصها، وأنت تستطيع أن تحركها فتقول بَرَد، وبَرُد، وبَرِد؟! …”ØŒ وهي في المخطوطة: “بُرْدٌ وبُرُدٌ وبُرَدٌ؟!” بضم الباء، مأخوذة من (بُرْد) بمعنى الرداء.
* وفيها أيضًا: “غير أنك قد تستطيع أن تتكلم به …” وفي المخطوطة: “أن تكلم به”.
* وجاء في (ص 113): “ويعرف [الحرف] أنه خفيف، بأن تروم فيه الثقيل …”ØŒ وفي المخطوطة: “.. بأن ترومَ فيه التثقيل”.
* وفيها أيضًا: “فلو كانت ثقيلة لم تَدْخل عليها ثقلاً مع ثقلها …”ØŒ وفي المخطوطة: “لم تُدْخِلْ …” بالبناء للمجهول.
* وفي (ص 164): “لأن الحرف الذي بعدها أَخَلَّ به” وفي المخطوطة” .. قد أَخَلَّ به”.
*وفيها أيضًا: “وقد أخبرني من أثق به عن الخليل، أنه قال له: هل تجيز هذا ØŸ فقال: لا، وقد جاء … “ØŒ وفي المخطوطة: ” .. هل تجيز هذا؟ فقال: قلت: لا، قال: قد جاء”.
* وفيه أخيرًا: فلو كان هذا هو صُنْعُه …”ØŒ وفي المخطوطة: “هو وضَعَهُ …”.
كل ذلك في أربع صفحات، فما بال الصفحات الأخرى؟!
ولا يحقُّ للمحقِّق أن يغيّر في الأصل، أو يتدخَّل فيه، إلا في حدود ما تقتضيه ضرورات التحقيق، استجلاءً لمبهم، أو إزالةً لتصحيف، أو إتمامًا لنقص، أو تصحيحًا لخطأ نسخيٍّ، أو تركيب نحويٍّ، مع الإشارة إلى ذلك في الحواشي، ووضع الزيادات بين علامَتَي الزيادة أو التكملة […].
والكتاب – عمومًا – بحاجة ماسَّة إلى إعادة ضبط العديد من فقراته وجمله وكلماته، وعلامات الترقيم فيه، وتصحيح ما به من تصحيفاتٍ عديدة، لا مجال لذكرها كلها، فقلَّما تخلو صفحة من صفحاته منها؛ ولذلك سنركز اهتمامنا هنا على أخطاء التحقيق وأوهامه، التي يعدُّ بقاؤها طعنةً في صميم التحقيق، وسنبدأ في استعراضها صفحةً بعد صفحةٍ؛ لكي يتثنَّى للقارئ – والمحقِّق – أن يتابعانا خطوةً خطوةً، فيقرَّان من ذلك ما حقُّه الإقرار، ويستبعدان ما لم نستطع إقناعَهُم به،، والله المستعان.
1- ففي باب الساكن والمتحرك (ص 112): “وأنَّه لو كان متحرّكًا؛ لم تقدر على أن تُدخل فيه حركةً أخرى”ØŒ والصحيح: “لم تقدر على أن تُدخل فيه [إلا] حركةً أخرى”.
2-وفي باب الثقيل والخفيف (ص 113)ØŒ جاء النص التالي: “وكل الحروف تكون ساكنًا ومتحركًا، وخفيفًا وثقيلاً، إلا الألف والنون الخفيفة.
[واعلم: أن] الألف تكون ساكنة أبدًا، نحو ألف (ذا وقفا) ونون (منْك).
لأن هذه الألفات لا يوصل إلى تحريكهن بالهمز، والهمزة ليست بالألف، وهي حرف على حياله، وإن تُكتب ألفًا.
ومخرج نون (منْك) من الخياشيم، وليس لها موضع في الفم ولا الحلق، فإن حركتها، كان مخرجها، من الفم والخياشيم، فقلت: مِنك، وإن حرَّكْتَ ذَاْ فقلْت: ذأْ؛ فهَمَزْتَ”.
وقد نقلت لك النص كاملاً كما جاء بكل فقراته ووقفاته وفواصله وتشكيله، لترى إلى أي مدى ذهب المحقِّق به بعيدًا عن الأصل.
فالنص – كما نرى – فقرة واحدة متصلة، شتَّت المحقِّق أوصالَها بقسمتها إلى أربع فقرات منفصلة، مما جعله – هو نفسه – يفهم النص فهمًا مُغايرًا للمراد؛ ولذلك ابتدأ فقرته الثانية بقوله: “واعلم: أن، مع أن الجملة التي بعدها تفسير لما قبلها، ولذلك كان أولى به أن يقول “ذلك أن الألف …”. كما أنَّ فقرته الثالثة تفسير لما قبلها، بدليل قوله: “لأن هذه الألفات لا يوصل إلى تحريكهن بالهمز …”.
بل إنَّ في هذه الفقرة – وما بعدها – خطأً جوهريًّا، لم ينتبه إليه المحقِّق، صوابه: ” .. لا يوصل إلى تحريكهن [إلا] بالهمز…”ØŒ وهذا ما وضَّحه الأخفش في قوله بعدها: “وإن حرَّكْتَ (ذَاْ) فقلْتَ: [ذأَ] [هَمَزْتَ]” بفتح الهمزة لا بسكونها، “والهمزة ليستْ بِالألف، وإن [كانت] تكتب ألفًا”.
كما أن في النص شيئا من التقديم والتأخير، نصححه – جملةً – بقولنا: “.. وكل الحروف تكون ساكنًا ومتحركًا، وخفيفًا وثقيلاً، إلا الألف والنون الخفيفة، نحو: ألف (ذا)ØŒ Ùˆ(قفا)ØŒ ونون (منْكَ).
[ذلك أن] الألف تكون ساكنة أبدًا، [وأن] هذه الألفات لا يوصل إلى تحريكهن [إلا] بالهمز، والهمزة ليست بالألف، وهي حرف على حياله، وإن [كانت] تكتب ألفًا، ومخرجُ نون (منْك) من الخياشيم، وليس لها موضع في الفم ولا الحلق، فإذا حرَّكْتَها كان مخرجها من الفم والخياشيم؛ فقلت: (مِنكَ)ØŒ وإن حركت [ألف] (ذا) فقلت: (ذأ) [هَمَزْتَ]”.
ونحن نرى – تعليقًا على كلام الأخفش – أن النون الخفيَّة هي كغيرها من الحروف؛ تكون ساكنةً ومتحركةً، وخفيفةً وثقيلةً، وإن تغيَّر مخرجها قليلاً، وهي في ذلك تشبه إلى حدٍّ ما الواو والياء المدِّيَّتَيْن.
3- وفِي باب الهجاء (ص 115): “اعلم أنَّ هجاء الحرف على وجهين: فوجهٌ محذوف يستغنون [فيه] بما أبْقَوْا عما أَلْقَوْا؛ لأن فيه دليلاً، نحو حذفهم ألف (خالد)ØŒ وألف (دراهم)ØŒ وهمزة (مآرب)ØŒ وواو (رؤوس)…”.
حيث ضبط المحقِّق كلمَتي (خالد ودراهم) بإثبات الألف، وكلمة (رؤوس) بإثبات الواو. وإنما هي في الأصل (خلد ودرهم – كما أشار المحقِّق – ورؤس)ØŒ فوهم، فعَدَلَ بها عن الصحيح إلى الخطأ، حيث بطل بذلك الاستشهاد بها على وجود الحذف فيها، وفي هذا النص إشارة إلى طرائق القدماء في كتابة بعض الكلمات؛ يقول أبو الحسن العَروضي (الجامع 57): “وأما ما حُذف استخفافًا – لأنه لا لبس فيه – فألف (خَلِد)ØŒ لأنه ليس في الكلام مثل (خَلِد)ØŒ وألف [درهم[6]]ØŒ إذا قالوا: ثلاثة درهم؛ لأن العدَّ قد أزال اللبس …”.
4- وفي (ص 118) من باب الابتداء والوقف: إلا أن ناسًا من العرب قد (يرومون) الحركة في الوقف (ويُشِمُّون) .. فيقولون: هذا خالدٌ بالإشمام، وأمَّا بالرَّوْم فيقولون: هذا خالدُ …”.
حيث ضبط المحقِّق كلمتي (خالد) بالتنوين مرة، وبالضم مرة أخرى، وحقُّهما الوقف، كما هو واضح من قوله: “يرومون الحركة في الوقف ويُشِمُّون …”. والإشمام – وهو أقل من الرَّوْم –: تبيان الحركة – الموقوف عليها- بتحريك الشفة، بما يدل على الحركة، فالإشمام يُرى ولا يُسمع، “والحرف الذي فيه الإشمام ساكن، أو كالساكن” كما نقل المحقِّق عن “الصحاح”.
5- وفيها أيضًا: “والشعراء في المقيد [من القوافي] .. يخففون كل مثقَّل، قال:
أَصَحَوْتَ الْيَوْمَ أَمْ شَاقَتْكَ (هِرُّ)
فراء (هرُّ) مثقَّلة ومرفوعة”.
وواضح تمامًا خطأ المحقِّق في ضبط القافية – وهي مقيدة – بالتثقيل والرفع، وهي (هرْ) بتخفيف الراء، ربَّما اعتمادًا منه على قول الأخفش الوارد بعدها. ثم قال:
“وَمِنَ الْحُبِّ جُنُونٌ ذُو (شُعُرْ)
فراء (الشُّعُر) خفيفة”.
وهي (سُعُر) بالسين المهملة، لا بالشين المعجمة.
6- وفي باب جمع المتحرك والساكن (ص 120): أشار الأخفش إلى اجتماع الساكنين في بعض القوافي، “وأن الساكن الأول في ذلك لا يكون إلا حرف لين …”ØŒ وهذا ما يسمَّى عادةً (بالترادف) في القوافي. إلا أن المحقِّق قال (هامش 1ØŒ ص 121): “وهو ما يسمى بالقصر في القوافي، مثل:
فَلَيْتَ أَبَا شَرِيكٍ كَانَ حَيًّا فَيُقْصِرُ – حِينَ يُبْصِرُهُ – شَرِيْكْ”
وإذا كان الترادف يتحقق (بالقصر) كما في المثال أعلاه، إلا أنَّه يتحقق أيضًا (بالتذييل) كما في مجزوءَيِ البسيط (مُسْتَفْعِلانْ)، والكامل (مُتَفَاعِلانْ)، و(بالتسبيغ) كما في مجزوء الرَّمَل (فَاعِلاتَانْ)، و(بالوقف) في ضرب السريع الأول ( فَاعِلانْ)، وفيما يسمَّى بمشطور السريع ومنهوك المُنْسَرِح (مَفْعُولانْ)، والأمثلة على ذلك كثيرة في جميع كتب العَروض.
7- وفي باب تفسير الأصوات (ص 123): يقرر الأخفش أن أقل ما يمكن إفراده من الأصوات حرفان؛ متحرك فساكن، نحو: (ها وقط)ØŒ وأن “أقل ما يفرد بعد الحرفين أن تزيد عليهما حرفًا ساكنًا” نحو: (هاءْ وقَطُّ)ØŒ بهمزةٍ ساكنة في (هاءْ)ØŒ وبتثقيل الطاء فقط في (قطُّ)ØŒ وليستا كذلك؛ لأنه بذلك يزيد عليهما حرفًا متحركًا (صامت + حركة)ØŒ ويريد الأخفش زيادة ساكنٍ فقط.
8- ويقرر الأخفش في الفقرة السابقة ذاتها: أن أقل ما تزيد على الحرفين – إذا وصلتهما – الحركة؛ “لأنك تقدر عليها [في الوقف] … وذلك أنك تهمز ألفها؛ فتقول: (هَأَها)ØŒ وتحرك (قطْ) فتقول: (Ù‚ÙŽØ· قَطْ)…”.
وواضح هنا أن (ها) و (قطْ) الثانيتين، أضيفتا لتبيان الحركة في الوصل، إلا أن المحقِّق ضبط المثالين أعلاه خطأً، فجعل الحركة التي زادها الأخفش تقع على (ها وقط) الثانيتين هكذا: (هَأَهَا، وقَطْ قَطُ)!!
9- وفيه: “ولم يوصل إلى المتحرك: أي يفرد؛ لأنه يقفُ عليه فيسكن”. ولعل الصواب هنا: “ولم يوصل إلى المتحرك [أن] يفرد، لأنه يوقف عليه فيسكن”.
10- وفي الصفحة (127) من باب تفسير العَروض: “غير أني لا أبيِّن إلا ما سمعت”. ولعل في الكلمة تصحيفًا صحيحُه (لا أجيز).
11- وفيه (ص 130):
يَا جَارُ لا تَجْهَلْ عَلَى أَشْيَاخِنَا .. … والأَحْلامِ
وهو لمُهَلْهِل، ورد في “الأصمعيات” (ص 176)ØŒ وصحيحه: (يا حَارِ)ØŒ ترخيم للحارث كما هو معروف.
12- وفيه أيضًا (ص 131): “وهذا مع جمعنا إياها …” والصحيح: (وهذا معنى …).
13- أما باب “تفسير أول الكلمة وآخرها” (ص 133)Ø› فنرجح أن يكون اسمه “باب تغيير أول الكلمة وآخرها”Ø› بدليل قوله في آخر الباب: “فهذا يأتي لك على جميع ما فسر الخليل [من] تغير الكلمة وآخرها، والزيادة فيها والنقصان، والتحريك والإسكان …”.
14- وفي أوله: “أما هي وهو، ولام الإضافة لهم …”!! ولا معنى لكلمة (لهم)ØŒ ولعل الكلمة زائدة، أو أن بها تصحيفًا لم أصل إليه.
15- وفيه: “وإذا كان حرف ساكن قبل همزة متحركة؛ فإن شئت حذفت الهمزة، وألقيت حركتها على الساكن؛ فقلت في: من أبوك؟ مَنَبُوك؟. ويريد: فيرميه، يريد: في أرميه”.
وقد أشار المحقِّق إلى ثقل التركيب الأخير، وأنه ربما كان تصحيفًا من الناسخ، ولكنَّه لم يُحاول إصلاحَه، ولعل التركيب المناسب هنا: (وقلت: فيرميه، تريد: في أرميه)ØŒ بخفض الفاء؛ “لأنها أول حرف من في”ØŒ وحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الياء.
16- وقد جاء بعد النص السابق قوله: “إلا أن الألف لا تحوَّل عليها الحركة، في نحو: يأبا فلان”ØŒ وقد فَصَل المحقِّق هذه العبارة عن سابقتها، وهي ملحقة بها، وتابعة لها، ومرادها: أنه عندما يكون الساكن قبل الهمزة ألفًا؛ لم تستطع حذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الألف؛ لأن الألف لا تحوَّل عليها الحركة، أي: لا تظهر عليها الحركة كما شرح هذا من قبل (ص 113)ØŒ وبالتالي: فإنَّ المِثالَ الذي ضربه؛ يجب أن يكون: (يا أبا فلان)ØŒ أو (يا با فلان) بحذف الهمزة فقط.
17- وبعد ذلك جاء قوله: “ويجوز في ألفات الوصل[!]ØŒ إن شئت في الابتداء، وفي أول النصف الثاني من البيت، ولا يحسن في شيء من الإدراج”.
وواضح أن في العبارة نقصًا، يكمله قولنا: “ويجوز [القطع] في ألفات الوصل …”ØŒ وهي فقرة جديدة، حقُّها أن يُبتدأ بها السطر.
18- وفيه (ص 135): “واعلم: أن الهاء التي تبيَّن بها الحركات، نحو: ارْمِهِ وعليهِ، ووازيداهُ، ويا عمَّاهُ …”.
والهاء التي تبين بها الحركات ساكنة، وتسمى (هاء السكت)ØŒ وهي تلحق الكلمات عند الوقف؛ لبيان حركةٍ أو حرف، ولا يثبت شيء منهن في الوصل – كما يقول الأخفش بعدها، وبالحركة تصبح هاء ضمير الغائب؛ ولذلك فصحيح العبارة هو: “ارْمِهْ وَعَلَيَّهْ [بالسكت على (عَلَيّ)]ØŒ ووازيداهْ، ويا عمَّاهْ …”.
19- وفي باب ما يحتمله الشعر ..ØŒ (ص 137): “اعلم: أن (هم) إذا كان قبله حرف مكسور، أو ياء ساكنة؛ إن شئت أسكَنْتَ ميمه في الوصل، وإن شئت حرَّكْتَها وألحَقْتَها ياء أو واوًا ساكنة، نحو: (بهمْ وبهموا، وعليهموا وعليهمي، وعليهمْ ربِّهِمِي)”.
وأغلب الظن أن في الأمثلة الأخيرة تقديمًا وتأخيرًا، ولعلها في الأصل: (بهمْ وبهمو وبهمي، وعليهم وعليهموا وعليهمي).
20- وقد جاء بعد ذلك مباشرةً: “وميم الجماعة في (غيرهم)ØŒ إن شئت أسكنتها …”ØŒ وواضح أن مقتضى العبارة أن تكون: “وميم الجماعة في غير (هم) …”ØŒ أي: فيما سوى (هم) المذكورة آنفًا.
21- وفيه (ص 139): “واعلم: أن كل ما لا ينصرف؛ يجوز صرفه في الشعر، نحو: قصر الممدود، ولا يجوز الحذف في الشعر، فإذا قصرته فإنما تحذف حرفًا …”.
وفيها: يجعل الأخفش قصر الممدود من باب صرف ما لا ينصرف، وليس ذلك منه، كما أن في قوله: “لا يجوز الحذف في الشعر” تناقضٌ مع إجازته قصر الممدود؛ لأن القصر حذف من الشعر كما قال في آخر العبارة. والصحيح قولنا: “ويجوز الحذف في الشعر”ØŒ ولعل في العبارة تقديمًا وتأخيرًا أيضًا؛ فيصححها قولنا: “ويجوز الحذف في الشعر؛ نحو قصر الممدود، فإذا قصرته؛ فإنما تحذف حرفًا”.
22- ولقد حاول المحقِّق أن يسدَّ ما في الكتاب من خَرْم، بإضافة نُقُول منسوبة للأخفش في كلٍّ من البحر الطويل والمديد والبسيط، إلا أنه لم يستكمل الخَرْم الذي أصاب آخر باب ما يحتمله الشعر ..، وهو باب الضرورات الشعرية، كما أنَّه لم يستقصِ كل ما نُقل عن الأخفش في هذه البحور:
Ø£- ففي باب الطويل (ص 139)ØŒ لم ينقل المحقِّق عن الأخفش إلا زيادته ضربًا رابعًا مقصورًا، هو (مَفَاعِيلْ) بسكون اللام، وكان أحرى به وأنسب أن ينقل عنه مخالفته للخليل في زِحَافَيِ الكف (مَفَاعِيلُ)ØŒ والقبض (مَفَاعِلُنْ)ØŒ في حشو الطويل. يقول العَروضي (الجامع 199): “أما (مَفَاعِيلُنْ)Ø› فإن حذف الياء عند الخليل أحسن من حذف النون؛ لأنها في وسط الجزء، وأما الأخفش فكان يرى أنَّ حذف النون أحسن من حذف الياء؛ لأنها تعتمد على وتدٍ بعدها، والياء تعتمد على سبب، والاعتماد على الأوتاد أقوى من الاعتماد على الأسباب”.
ويقول الشنتريني عن القبض في الطويل (المعيار 34): “وهو في سباعيِّه أصلح من الكف عند الخليل، وهو عند الأخفش بعكس ذلك”.
ومن ذلك أيضًا قول التبريزي (الوافي 40) – وانظر (الجامع ص 184) -: “واختلف الخليل والأخفش في عَروض الطويل، فكان الخليل لا يجيز فيها غير (مُفَاعِلُنْ)ØŒ وكان الأخفش يجيز فيها (فَعُولُنْ) على جهة الزِّحَاف، لا على جهة البناء والأصل، ومعنى هذا: أنه كان يجيز في قصيدة واحدة أن يكون بعض الأعاريض على (مَفَاعِلُنْ)ØŒ والبعض على (فَعُولُنْ)ØŒ على أي ضربٍ كانت القصيدة من ضروبه. كان الأخفش يقول: “(مَفَاعِلُنْ) من جنس (فَعُولُنْ)ØŒ وهو فرع له، وأوله مضارع لأوله، فقياسه به أولى، وإذا كان كذلك؛ فقد وجدنا المتقارب باتفاقٍ منَّا تجتمع فيه عَروض محذوفة وعَروض غير محذوفة، ويكون ذلك في قصيدة واحدة، فبنينا عليه الطويل، وأجزنا فيه مثل ما أجزنا في المتقارب، وذلك قول النابغة:
جَزَى اللَّهُ عَبْسًا عَبْسَ آلِ بَغِيضِ جَزَاءَ الْكِلابِ العَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ
وكان الخليل يقول: “لو أجزنا مثل هذا؛ لكنا قد أجريناه مجرى الزِّحَاف، وقد علمنا أن الزِّحَاف لا يكون على هذا الوجه؛ لأنه لو جاء مثل هذا، وجرى مجرى الزِّحَاف؛ لم تكن العَروض أولى به من الحشو، فلما لم يدخل هذا في الحشو؛ لم يدخل في العَروض”.
ونقل العَروضي في (الجامع ص 199) عن الأخفش زعمه؛ أن النون من (فَعُولُنْ) – التي تسبق الضرب الثالث من الطويل – زائدة، وأن الزيادة جازت عند الأخفش، كما جاز النقصان.
ب- وفي باب المديد (ص 140): نقل المحقِّق فقرة جاءت في باب الرَّمَل، من كتاب “العَروض” (ص 151)ØŒ ليس فيها مما يمكن إضافته إلى المديد، إلا قوله: “والمديد الذي فيه (فَاعِلُنْ وفَاعِلانْ) لم نسمع منه شيئًا، إلا قصيدة واحدة للطِّرِمَّاح”. وكانت أمام المحقِّق نقول أخرى عديدة، يمكن أن يسد بها الخرم في المديد.
* فمن ذلك قول الدَّماميني (الغامزة 53): “حكى الأخفش عن الخليل: أنه سمِّي مديدًا لامتداد سببين في طرفي كل جزء من الأجزاء السباعية..”.
* ومن ذلك أيضًا قول الشنتريني (المعيار 42): “وحكى الأخفش للعَروض الثانية [فَاعِلُنْ] ضربًا رابعًا مجزوءًا [فَاعِلاتُنْ]ØŒ شاهده:
لَمْ يَكُنْ لِي غَيْرُهَا خِلَّةً لا وَمَا كَانَ غَيْرِي خَلِيلا
لَمْ يَزَلْ لِلْعَيْنِ فِي كُلِّ مَا غِبْطَةٍ، حَتَّى رَأَتْنِي قَتِيلا
* ومن ذلك قول الشنتريني أيضًا: “وأجاز الأخفش خَبْن ضربها الثاني [فَاعِلانْ]ØŒ شاهده:
كُنْتُ أَخْشَى فِيكَ صَرْفَ الرَّدَى فَرَمَانِي سَهْمُهُ فَأَصَابْ
* ومما يُسدُّ به الخَرْم في باب المديد أيضًا ما نقل عن الأخفش من قوله بشذوذ الضربين (فَاعِلُنْ وفَعلُنْ) مع العَروض (فَاعِلُنْ)Ø› يقول أبو الحسن العَروضي (الجامع ص 185): “وأما المديد؛ فإن الأخفش زعم أن قوله:
إِنَّمَا الذَّلْفَاءُ يَاقُوتَةٌ أُخْرِجَتْ مِنْ كِيسِ دِهْقَانِ
لم يُسْمَع، وأنه مُحْدَث، والقياس عنده ألا يجوز؛ لأنه لم يجئ. وكذلك قوله:
يُغْرَمُ الْمَرْءُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَصِيرُ الْمَالُ لِلْوَارِثِ
فهذا عنده غير جائز؛ لأنه لم يجئ، وذلك قول ابن القَطَّاع (البارع 103)ØŒ والشنتريني (المعيار 39): “وهذان الضربان شاذَّان عند أبي الحسن الأخفش”.
* وفي المديد أيضًا، نقل العَروضي (الجامع 200) مخالفة الأخفش للخليل في تعليله عدم سقوط ألف (فاعلن) التي في العَروض، حيث يرى الخليل أن المديد: “كان أصله ثمانية أجزاء، وقد سقط منه جزآن، فلذلك لم يجز فيه الزِّحَاف”ØŒ بينما يقول الأخفش: “إنما لم يَجُزْ فيه الزِّحَاف؛ لأنه [شعر] قليل، وإنَّما يحذفون من الأشياء التي تكثر في كلامهم، ويكثر استعمالهم لها”.
ج- وفي باب البسيط (ص 141) يقول المحقِّق: “لم أجد للبسيط نُقولاً عن الأخفش”Ø› ولذلك نقل عن كتاب العَروض نفسِه فقرات تحدَّث فيها الأخفش عن (مُسْتَفْعِلُنْ)ØŒ في سياق حديثه عن الرَّجَز والسريع، وليس فيما نقله المحقِّق ما تصلح إضافته هنا؛ إلا قوله في الرَّجَز (ص 149): “فـ(فَعَلَتُن) فيه أحسن منه في البسيط والسريع”. وقد وجدت نقولاً عن الأخفش تصلح إضافتُها هنا.
* يقول أبو الحسن العَروضي (الجامع 201): “فإنَّ الخليل كان يرى أنَّ حذف السين [من (مُسْتَفْعِلُنْ)] أحسن من حذف الفاء؛ “لأنها أول الجزء”ØŒ والأخفش يرى أن حذف الفاء أحسن؛ “لأنها تعتمد على وتد”.
* ويقول العَروضي أيضًا (الجامع 186): “وقد أنشد الخليل بيتًا [من البسيط] على الأصل؛ [أي أن ضربه فَاعِلُن وليس فَعِلُن]ØŒ وهو:
قَفْرُ الْفَيَافِي تَرَى ثَوْرَ النِّعَاجِ بِهِ يَرُوحُ فَرْدًا وَيَلْقَى إِلْفَهُ طَاوِيَهْ
فقوله: (طَاوِيَهْ) وزنه (فَاعِلُنْ)ØŒ وهذا ردَّه الأخفش”.
وحول ذلك؛ جاء في اللسان لابن منظور (9/11)ØŒ في باب (إِلْف): “والذي حكاه أبو إسحاق، وعزاه إلى الأخفش: أن أعرابيًّا سُئِلَ أن يصنع بيتا تامًّا من البسيط؛ فصنع هذا البيت”.
* وفي الضرب الثالث من البسيط:
مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُن مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُن مَفْعُولُنْ
أجاز الأخفش طيَّ (مَفْعُولُنْ)ØŒ أي: حذف رابعها الساكن، فتصير (مَفْعُلُنْ)Ø› فتنتقل إلى (فَاعِلُنْ). يقول الشنتريني (المعيار 44): “وكل (مَفْعُولُنْ) ممنوع من الطيِّ؛ لاختلال الوتد، وأجاز الأخفش طيَّه، ومنعه الخليل”. ولم يورد الشنتريني شاهده على ذلك، كما أنني لم أجد له شاهدًا.
23- وفي بداية البحر الوافر (ص 142) خَرْمٌ أراد المحقِّق أن يسدَّه، فأخطأ عندما أضاف الجملة التالية: “فيجوز إسكان اللام في (مُفَاعَلَتُنْ)”ØŒ نحو:
قَوَائِمُهَا إِلَى الرُّكْبَاتِ سُودٌ وَسَائِرُ خَلْقِهَا بَعْدُ بَهِيمُ
وقال:
أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرَيَاهُ كِلانَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ
والصحيح أن يضيف قوله: “فجاز إلقاء نون مَفَاعِيلُنْ”Ø› ذلك أن الأخفش – كما يدل باقي كلامه – كان يتحدث عن ورود (مَفَاعِيلُ) في الوافر التام، حيث جاء عَجُز البيت الأول على (مُفَاعَلَتُنْ مَفَاعِيلُ فَعُولُنْ)ØŒ وصدر البيت الثاني على: (مُفَاعَلَتُنْ مَفَاعِيلُ فَعُولُنْ)[7].
يقول الأخفش معلّقًا على كلمة (ترياه) من البيت الثاني: “أخبرني من أثق به من الرواة، أنَّه سمعه غير مهموز، ولا أرى الذين همزوا – [أي بقولهم: ترأياه] – إلا لم يسمعوه عن العرب؛ فإنما همزوه فرارًا من الزِّحَاف، ولو سمعت هذا البيت – لا أدري تهمزه العرب أم لا – حملته على ترك الهمز؛ لأنه الأكثر”. ويوافق هذا ما قاله الجوهري في عَروض الورقة (ص 31): “وزعم الأخفش أنه لم يسمع في الوافر (مُفَاعَلُنْ)ØŒ وسمع (مَفَاعِيلُ)ØŒ وبيته:
قَوَائِمُهَا إِلَى الرُّكْبَاتِ سُودٌ وَسَائِرُ خَلْقِهَا بَعْدُ بَهِيمُ
* ولعلَّ شيئًا مِمَّا خرم في بداية البحر الوافر، يوافقه قول أبي الحسن العَروضي (الجامع 186): أن الأخفش “سمع أعرابيًّا ينشد شعرًا على (مُفَاعَلَتُنْ) ست مرات – [أي: على أصل الوافر] – وقال: هو قياسٌ عندي”.
24- وفي باب الوافر أيضًا، يقول الأخفش: “وكان الخليل لا يجيز إلقاء ياء (مَفَاعِيلُنْ) إذا كانت عَروضًا”ØŒ وهو بذلك يتحدث عن مجزوء الوافر بلا شك؛ لأن (مَفَاعِيلُنْ) لا ترد عَروضًا إلا في المجزوء، كما هو معلوم.
إلا أن المحقِّق علَّق على ذلك بقوله (هامش 8): “وقد جاء في عَروض الضرب الأول – المقطوعة – القبض؛ وهو حذف الخامس الساكن، من ذلك قول جرْوَل بن أوس:
عَلَوْتُ عَلَى الرِّجَالِ بِخُلَّتَيْنِ وَرِثْتُهُمَا كَمَا وُرِثَ الْوَلاءُ
وواضح أن التعليق والشاهد ليسا في موضعيهما؛ إذ المطلوب هنا بيت من مجزوء الوافر جاءت عَروضه على (مَفَاعِلُنْ).
25- وفي الوافر كذلك، يقول الأخفش: “ولم يجيزوا المعاقبة إذا كانت (مَفَاعِيلُنْ) …”ØŒ والمعاقبة هنا تعني: سقوط الياء، مع ثبات النون؛ (مَفَاعِلُن)ØŒ أو: سقوط النون، مع ثبات الياء؛ (مَفَاعِيلُ)ØŒ ولا يجوز سقوطهما معًا.
وقد أخطأ المحقِّق في تعريف المعاقبة (هامش 3)ØŒ عندما قال: “المعاقبة بين الحرفين معناها: إذا سقط أحدهما ثبت الآخر عقبه، فيجوز أن يثبتا معًا، ويجوز أن يسقطا معًا”!ØŒ وكنت أظن أن في ذلك خطأً مطبعيًّا، إلا أنَّنِي وجدت الخطأ مكررًا في الهامش رقم (1) (ص 147)ØŒ كما وجدته كذلك في كتاب “البارع” لابن القَطَّاع، الذي حقَّقه ونقل عنه[8].
26- وجاء في الوافر أيضًا: “ولم يُجيزوا المعاقبة إذا كانت (مَفَاعِيلُنْ) كما أجازوا في الكامل، حين صارت (مُسْتَفْعِلُنْ)Ø› لأن (مُسْتَفْعِلُنْ) جزء يُلقى سينه وفاؤه، فقد نقصره”.
وفي هذا النص إبهام وتناقض؛ فالمعاقبة في (مَفَاعِيلُنْ) تعني: جواز سقوط الياء؛ (مَفَاعِلُنْ)ØŒ أو النون؛ (مَفَاعِيلُ)ØŒ كلٌّ على حدةٍ، وعدم جواز سقوطهما معًا (مَفَاعِلُ)Ø› لذلك فلا معنى لقوله: “ولم يجيزوا”ØŒ ولا: “أجازوا”Ø› لأن في نفي جواز المعاقبة معنى جواز سقوطهما معًا، وليس ذلك صحيحًا، إذ من المعروف أنَّ في الوافر المعاقبة بين ياء (مَفَاعِيلُنْ) ونونها.
يقول أبو الحسن العَروضي (الجامع 201): “فإذا سُكِّنتِ اللام [من (مُفَاعَلَتُنْ)]Ø› عاقبت الياء النون. ويقول الشنتريني (المعيار 49): “وفيه المعاقبة بين الياء والنون”.
ولذلك فلعل في العبارة تصحيفًا، يصححه قولنا: (وهم يجرون) المعاقبة إذا كانت (مَفَاعِيلُنْ)ØŒ كما (أجروا) في الكامل حين صارت (مُسْتَفْعِلُنْ)..”.
27- وفي البحر الكامل (ص 145)ØŒ جاء قول الأخفش: “وقد أجازوا (فَعِلُنْ) في الذي عَروضه (مُتَفَاعِلُنْ) – وهو الأصل؛ لأنه صدر (مُتَفَاعِلُنْ)”.
حيث ضبط المحقِّق (فَعْلُنْ) بسكون العين، ونظنها متحركة العين؛ لقوله: “لأنه صدر (مُتَفَاعِلُنْ)”ØŒ وصدرها هو (مُتَفَا)ØŒ أي: (فَعِلُن)ØŒ كما هو واضح.
أضف إلى ذلك: أنَّ المحقِّقَ قد توهَّم من عبارة الأخفش السابقة أنَّه يريد مَجيء (مُتَفَاعِلُنْ) عَروضًا، مع (فَعْلُنْ) ضربًا، فعلق عليها بقوله: “وهو الضرب الثالث من الكامل، شاهده:
لِمَنِ الدِّيَارُ بِرَامَتَيْنِ فَعَاقِلٌ دَرَسَتْ وَغَيَّرَ آيَهَا الْقَطْرُ”
والشاهد في غير موضعه؛ لأن الأخفش – كما قُلنا – يُريد مجيءَ العَروض (فَعِلُنْ) جوازًا مع العَروض (مُتَفَاعِلُنْ) في ذات القصيدة، مهما كان ضربها، كالذي أورده الشنتريني في (المعيار ص57):
النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ
الخَالِطِينَ نَحِيتَهُمْ بِنُضَارِهِمْ وَذَوِي الْغِنَى عَنْهُمْ بِذِي الْفَقْرِ
أو قوله:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِهِ – فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ قَدْ قُمْنَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأَسْحَارِ
28 – ومثلُ ذلك؛ يقول الأخفش في الكامل: “وما أرى (فَعْلُنْ) في العَروض إلا جائزة مع (فَعِلُنْ)..”. حيث توهَّم المحقِّق أنه يقصد الضرب الخامس للكامل، ذي العَروض (فَعِلُنْ) والضرب (فَعْلُنْ)ØŒ وشاهده:
وَلأَنْتَ أَشْجَعُ مِنْ أُسَامَةَ إِذْ دُعِيَتْ نَزَالِ، وَلُجَّ فِي الذُّعْرِ
وليس ذلك مقصود الأخفش كما هو واضح، ولكنه جواز (فَعْلُنْ) مع (فَعِلُنْ) في العَروض، وفي ذات القصيدة أيضًا، وهو نادرٌ، كما في قول صالح جودت:
وَالْجِيدُ إِذْ يَخْتَالُ فِي تَلَعٍ فَتَغَارُ مِنْهُ لآلِئُ الْعِقْدِ
لا تَخْدَعَنَّكِ فِتْنَةُ الأُنْثَى فِتَنُ الرُّجُولَةِ كُلُّهَا عِنْدِي
29- وفي الكامل أيضًا، علَّق المحقِّق على قول الأخفش: “وجاز إسكان عين (فَعِلاتُنْ)”ØŒ بقوله: “ولم يَرِدْ …”!!
والحقيقة أنَّ ذلك كثيرُ الورود جدًّا، كما هو معلوم من كتب العَروض والشعر، سواء في الكامل التام أو المجزوء.
يقول الجَوْهَري (عَروض الورقة 36): “ويجوز القطع مع الإضمار، فينقل إلى (مَفْعُولُنْ)”. ويقول التبريزي (الوافي 87): “ويجوز في (فَعِلاتُنْ) إضمار، فيصير (فَعْلاتُنْ)”ØŒ

ومن شواهد ذلك في الشعر، قول شوقي (الشوقيَّات 3/17):
رَكَزُوا رُفَاتَكَ فِي الرِّمَالِ لِوَاءَا يَسْتَنْهِضُ الْوَادِي صَبَاحَ مَسَاءَا
يَا وَيْحَهُمْ نَصَبُوا مَنَارًا مِنْ دَمٍ يُوحِي إِلَى جِيلِ الْغَدِ الْبَغْضَاءَا
جُرْحٌ يَصِيحُ عَلَى الْمَدَى وَضَحِيَّةٌ تَتَلَمَّسُ الْحُرِّيَّةَ الْحَمْرَاءَا
30- وفي الكامل أيضًا، يقول الأخفش: “ولم نجد (مُفْتَعِلُنْ ولا مُفَاعِلُنْ) في مجزوء الكامل، وهو جائز …”ØŒ ووافقه المحقِّق بقوله: “لم ترد هذه الصورة لمجزوء الكامل في كتب العَروض”.
والحقيقة أن (مُفْتَعِلُنْ ولا مُفَاعِلُنْ) أكثر ورودًا في المجزوء منهما في التام؛ يقول المعري في رسائله (ص 117): وقد يجيء الخَزْل (مُفْتَعِلُنْ)ØŒ والوَقْص (مُفَاعِلُنْ) في ضروب الكامل القصيرة، أكثر من مجيئه في الأوَّلَيْن [التامَّيْن]”. وقد أوردت معظم كتب العَروض أمثلة لذلك، كالذي أورده الزمخشري في “القسطاس” (ص93):
خَلَطَتْ مَرَارَتَهَا لَنَا بِحَلاوَةٍ كَالْعَسَلِ (مُفْتَعِلُنْ)
وقوله:
وَلَوَ انَّهَا وُزِنَتْ شَمَا مِ بِحِلْمِهِ لَشَالَتِ (مُفَاعِلُنْ)
وقوله:
كُتِبَ الشَّقَاءُ عَلَيْهِمَا فَهُمَا لَهُ مُيَسَّرَانْ (مُفَاعِلانْ)
وقوله:
وَأَجِبْ أَخَاكَ إِذَا دَعَا كَ مُعَالِنًا غَيْرَ مُخَافْ (مُفْتَعِلانْ)
31- وفي الهَزَج (ص 147) يقول الأخفش: “فُتعاقبُ في (مَفَاعِيلُنْ) الياء النون”Ø› مجيزًا بذلك فيها (مَفَاعِيلُ أو مَفَاعِلُنْ)ØŒ على الرغم من قوله: “وإن كنا لم نجد الياء أسقطت في شيء من الشعر فنقيس عليه…”!.
وكان فَهْمُ المحقِّق لهذه العبارة عجيبًا؛ إذْ حاول أن يستخلص منها ما لم يقله الأخفش أبدًا!! يقول المحقِّق: “ومعنى هذا أنَّ الأخفش يُجيز حذف النون من (مَفَاعِيلُنْ)ØŒ ولما كان بعدها وتد [ØŸ!!] فإنه وجب تسكين اللام، وهو ما يسمى بالقصر”!!ØŒ رابطًا هذا الكلام بما نُقل عن الأخفش، أن للهَزَج “ضربًا ثالثًا مقصورًا”Ø› كما في قوله:
بَنُو آدَمَ كَالنَّبْتِ وَنَبْتُ الأَرْضِ أَلْوَانْ
فَمِنْهُمْ شَجَرُ الْمحْلِ بِ وَالْكَافُورِ وَالْبَانْ
وواضحٌ أنه ليس في عبارة الأخفش ما يشير إلى هذا الضرب على الإطلاق، وكل ما فيها أن (مَفَاعِيلُنْ) – في حشو الهَزَج لا في ضربه، كما توهم المحقِّق – فيها المعاقبة.
32- وفي باب الرَّجَز (ص 149): “وإنَّما وضعوه للحُدَاء، والحُدَاء غناء، وهم وكلامهم إذا كانوا في عمل أو سوق إبل …”. وفي ذلك تصحيف واضح، صحيحه: “والحُدَاء [غناؤهم] وكلامهم …”.
33- وحول (فَعَلَتُنْ) في الرَّجَز، وأنها فيه أحسن منها في البسيط، استشهد الأخفش بقول العَجَّاج:
قَدْ جَبَرَ الدِّيِنَ الإِلَهُ فَجَبَرْ
وقال: “فلم يقبُح. – وقد جاء بفَعَلَتُنْ – كما قبُحَ: فَحَسَبُوهُ فَأَلْفَوْهُ كَمَا حَسَبَتْ”
إلا أنَّ المحقِّق وضع نقطة بعد قوله “فلم يقبح”. كما أدخل شطر البيت بعدها في درج الكلام، مما يوهم بأنه نثر، وهو صدر بيتٍ للنابغة من البسيط، عجُزُه هو:
تِسْعًا وَتِسْعِينَ لَمْ تَنْقُصْ وَلَمْ تَزِدِ
34- ولقد أراد المحقِّقُ أن يَستَشْهِد على جواز الخَبْن في الرَّجَز (ص 149)ØŒ فقال – نقلاً عنِ ابْنِ القَطَّاع -: “وقد يدخل الخَبْن البيتَ كله، مثل:
أَرِدْ مِنَ الأُمُورِ مَا يَنْبَغِي وَمَا تُطِيقُهُ وَمَا يَسْتَقِيمْ
وواضح أن هذا البيت من السريع لا الرَّجَز، استشهد به ابن القَطَّاع (البارع 169) على الخَبْن في السريع، كما استشهد به المحقِّق شاهدًا على الخَبْن في السريع أيضًا (ص 154).
35- وفي الرَّجَز أيضًا (ص 150): “وجاز إلقاء السين والفاء – أي: فلا معاقبة فيه -وإنما خرج – أي الرَّجَز، في قول الخليل – من الهَزَج – أي: بالفك، وهو في موضع الياء والنون من (مَفَاعِيلُنْ)Ø› لأن السين والفاء يعتمدان على وتدٍ، وليس من جزئهما”!!
والصحيح: “.. يعتمدان على وتد من جزئهما”. بعكس الياء والنون من (مَفَاعِيلُنْ)Ø› فهما يعتمدان على وتد التفعيلة التالية.
36- وفي الرَّمَل (ص 151) يقول الأخفش: “فحذف ألف (فَاعِلاتُنْ) التي لا تعاقَب أحسن من حذف نونها”.
والأخفش في ذلك يتحدث عن (فَاعِلاتُنْ) الأولى من كل شطر؛ فهي التي لا معاقبة في ألفها؛ لأن المعاقبة في الرَّمَل هي بين نون (فَاعِلاتُنْ) وألف التفعيلة التي تليها.
ولم يفهم المحقِّق مراد الأخفش من هذا القول؛ فعلق بقوله: “يعني بها: حذف الألف الأولى التي بعد الفاء، وحذفها يعني به: الخَبْن، وقد يأتي في جميع أجزاء البيت”!!
37- ويكاد البحر السريع يهدم نظريَّة الدوائر الخليلية برمتها؛ فنزولاً على حكم الدائرة العَروضية، التي تَعُدّ البحر السريع مؤلَّفًا من: (مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُولاتُ)؛ فقد اضطر الخليل اضطرارًا إلى عد ما كتب من الرَّجَز المشطور على: (مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُولانْ)،و(مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُولُنْ) من السريع، وعدَّ ما كتب من الرَّجَز المنهوك على: (مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُولانْ)، و(مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُولُنْ) من المُنْسَرِح!!
ونظرًا إلى أن أضرب البحر السريع: (فَاعِلانْ وَفَاعِلُنْ وفَعِلُنْ) بعيدة كل البعد عن (مَفْعُولاتُ)Ø› فقد اضطر الخليل إلى تمحُّل (العلل) لكي يُحَوّلها إليها، ومعلوم أن الضرب (مَفْعُولُنْ)Ø› بل Ùˆ(مَفْعُولانْ) هما من ضروب الرَّجَز التام بإقرار الخليل والعَروضيين من بعده؛ فعلى الضرب الأول قصائدُ أكثر من أن تحصى، قديمًا وحديثًا، ومن الثاني – وهو قليل – أرجوزة النَّظَّار بن هاشم، والتي أوْرَدَها الأخفش في كتابه “الاختيارين” (ص 301)ØŒ وهي (66) بيتًا، يقولُ في مطلعها:
مَا هَاجَ شَوْقًا مُولَعًا بِالأَحْزَانْ وَدَمْعَ عَيْنٍ ذَاتِ غَرْبٍ تَهْتَانْ
إِلاَّ بَقَايَا نَبَهٍ مِنْ دِمْنَةٍ وَنَبَهٍ مِنْ طَلَلٍ وَأَعْطَانْ
ولذلك فلا مشاحَّة أنَّ هذه الضروب هي من الرَّجَز، ولقدِ انتقد عدد من العَروضيين الخليل في ذلك، ولعلَّ الأخفش كان على رأس هؤلاء؛ فهو يقول (ص 155): “ولم يُعلم أن أصل (فَاعِلُنْ) كان (مَفْعُولاتُ)..”.
وهو يعترف صراحةً أنَّ ما جاء على هذه الأضرب من شعر هو “شعر يُرْتَجَزُ به”.
كما انتقد المعرّيُّ مُخالفة الخليل للعرب؛ بجعله ما هو من الرَّجَز سريعًا؛ فقال (الصاهل والشاحج ص 284 – 286): “وهذه الأشعار رَجَزٌ عند العرب، وإن زعم الخليل أن بعضها من السريع”.
ويزيدُنا ثقة أنَّ هذه الضروبَ هي من الرَّجَز: “أنَّ أكثر ما جاء عليها كان لرُجَّاز لم يشتهروا بالقصيد؛ كالعَجَّاج، ورؤبة، والعِجْلي”. (شرح تحفة الخليل 198).
38- وفي أول المُنْسَرِح (ص 156)ØŒ جاء قوله عن (مُسْتَفْعِلُنْ): “فإن السين تعاقبت ألفًا…”!! وهو تصحيف واضح، صحيحه: “فإن السين تعاقب الفاء”.
39- وفي المُنْسَرِح (ص 157): يرى الأخفش – والخليل قبله – أن ليس للمنْسَرِح التام إلا ضرب واحد، هو (مُفْتَعِلُنْ)Ø› يقول الأخفش: “وهذا لم يجئْ له إلا ضرب واحد”ØŒ وقد وافقه المحقِّق على ذلك بقوله: “لم يأت للمُنْسَرِح إلا ضرب واحدة” [!].
والحقيقة: أن معظم كتب العَروض بعد الخليل أقرَّت أنَّ للمُنْسَرِح التام ضربًا آخر، هو (مَفْعُولُنْ)ØŒ استُدْرك على الخليل، ذكره ابن عبَّاد (ت 385هـ) – وغيره – في عَروضه (الإقناع ص 57) بقوله: “وقد وُجد في الشعر القديم والمُحْدَث ضرب آخر؛ (مَفْعُولُنْ)Ø› ففي الشعر القديم ما أنشده أبو حنيفة الدِّينَوَرِي في (كتاب النبات):
ذَاكَ وَقَدْ أَذْعُرُ الْوُحُوشَ بِصَلْ تِ الْخَدِّ رَحْبٍ، لِبَانُهُ مُجْفِرْ
وفي المُحْدَث [قول أبي العتاهية]:
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَوْلاتِي أَبْدَتْ لِيَ الصَّدَّ وَالْمَلالاتِ
40- وفيه أيضًا: “وذهاب الفاء من (مَفْعُولاتُ) Ùˆ(مَفْعُولُنْ) فيه صالح …”.
والصحيح: (مَفْعُولاتْ)، أو (مَفْعُولانْ) بسكون الآخر؛ لأن حديث الأخفش هنا عن المنهوك، لا عن التام.
41- وفي الخفيف (ص 161): أشار الأخفش إلى مجيء (مَفْعُولُنْ) في الضرب مع (فَاعِلاتُنْ) في ذات القصيدة، معلّلاً مجيئها بخفة هذا الشعر.
ولكنْ، على الرغم من أنَّ إشارته تلك كانت واضحة ومفهومة، إلا أن المحقِّق وقع في وهم كبير، عندما قال عن (مَفْعُولُنْ) هذه: “أصلها (مُسْتَفْعِلُنْ)Ø› حيث حُذف ساكنها السابع، وسُكِّن ما قبله؛ فصارت (مَفْعُولا)!! ثم حوِّلت إلى (مَفْعُولُنْ)ØŒ وهو ما يسمى بالتَّشْعِيب، “ولا يكون إلا في الخفيف والمُجْتَثّ”!!
ولستُ أدري كيف وقع له هذا الوهم، فـ (مُسْتَفْعِلُنْ) في الخفيف لا ترد على (مَفْعُولُنْ) إطلاقًا، ولستُ أدري كيف صارت (مَفْعُولا)ØŒ وكان المفروض أن تصير إلى (مُسْتَفْعِلْ) ØŸ! بل لقد تمادى المحقِّق في وهمه أكثر وأكثر، عندما راح يرد على أقوال العَروضيين في تشعيب (مُسْتَفْعِلُنْ)ØŒ مبيّنًا أنَّها في الخفيف مفروقة الوتد؛ “وبالتالي لا يمكن حذف أوَّله أو ثانيه، وإنما الأصح: إما حذف ثالثه المتحرك، أو حذف سابع التفعيلة – كفها – وتسكين ما قبله – اللام -!!
42- وأخيرًا يقول الأخفش في المتقارب (ص 164): “وجاز في العَروض (فَعَلْ وَفَعُولْ) ساكنة اللام في قول الخليل”.
وواضح أنه يشير إلى إمكان ورود (فَعَلْ وفَعُولْ) – جوازًا – إلى جانب (فَعُولُنْ) في عَروض المتقارب التام، ومعروف أن (فَعَلْ) كثيرة الورود، بَيْنَا تعد (فَعُولْ) شاذة، وشاهدها:
فَرُمْنَا الْقِصَاصَ، وَكَانَ التَّقَاصُّ (م) حَقًّا وَعَدْلاً عَلَى الْمُسْلِمِينَا
والتي طرحها بعضُهم؛ “لئلا يجتمع حرفان ساكنان في الشعر”ØŒ كما يقول الأخفش نفسه، إلا أنَّ مُحقِّقنا توهَّم غَيْرَ ما قصده الأخفش؛ فعلق على عبارته الأولى بقوله: “وهو الضرب الخامس من المتقارب، وعَروضه مثله (فَعُو)”!! وهو يقصد بذلك المجزوء:
فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُو فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُو!!

الخاتمة:
وعلى الرغم من قيمة الموضوعات التي طرحها الأخفش في كتابه هذا، إلا أنه مخيبٌ لأمل شُداة العَروض في استقاء هذا العلم من أهم مصادره وأقربها إلى الخليل؛ إذ ليس في هذا الكتاب من علم العَروض إلا بعض مقدماته، وبعض الملاحظات المتفرقة عن الزِّحَاف، في كل بحر على حدةٍ، رأى الأخفش أن يُدْلِي برأيه فيها؛ مؤيدًا، أو معارضًا، أو مستدركًا على أستاذه الخليل؛ ففي الوافر مثلاً: لم يناقِشِ الأخفش إلا أربع قضايا زِحَافيَّة؛ هي:
1- إجازته سقوط نون (مَفَاعِيلُنْ).
2- إشارته إلى منع الخليل إلقاء يائها إذا كنت عَروضًا.
3- تعليله عدم سقوط نون (مُفَاعَلَتُنْ).
4- تعليله عدم جواز المعاقبة في (مَفَاعِيلُنْ).
بينما لم يناقش في الهَزَج إلا قضية المعاقبة في (مَفَاعِيلُنْ)، ورأي الخليل في ذهاب يائها إذا كانت عَروضًا، ومخالفته للخليل في ذلك، كما لم يتحدث في المضارع والمُقْتَضَب – معًا – إلا عن المراقبة، وندرة الزِّحَاف فيهما.
وهذه المقدمات والملاحظات – على أهميتها البالغة – ليست إلا جزئًا ضئيلاً من علم العَروض، الذي كُنَّا نأمل أن نجنيه من هذا الكتاب، فهل للأخفش كتاب آخر في علم العَروض سوى ما بأيدينا الآن؟ ذلك ما نُرَجّحه.
ويؤكّد لنا هذا الترجيحَ؛ أنَّ للأخفش آراءً عَروضية عديدة، منثورة في كتب العَروض المختلفة، نقلت عنه، وليست موجودة في هذا الكتاب.
فمن ذلك مثلاً: قول الشنتريني في الهَزَج (المعيار 61): “وأجاز الأخفش في ضربه القصر؛ (مَفَاعِيلْ)ØŒ شاهده:
وَلَوْ أُرْسِلْتُ مِنْ حُبِّكِ مَبْهُوتًا إِلَى الصِّينْ لَوَافَيْتُكِ عِنْدَ الصُّبْحِ أَوْ حِينَ تُصَلِّينْ
وقوله في المتقارب (المعيار 91): “وقد زاد الأخفش ضربًا ثانيًا لهذه العَروض، مجزوءًا أبتر، مردفًا شاهده:
تَعَفَّفْ وَلا تَبْتَئِسْ فَمَا يُقْضَ يَأْتِيكَا
ومن ذلك قول الدَّماميني (الغامزة 61): “حكى الأخفش للوافر عَروضًا ثالثة، مجزوءة، مقطوفة، لها ضرب مثلها، وبيته:
عُبَيْلَةُ أَنْتِ هَمِّي وَأَنْتِ الدَّهْرَ ذِكْرِي
وقوله في منهوكَي المُنْسَرِح (ص 73): “والأخفش يعدُّ هذا والذي قبله من الكلام الذي ليس بشعر، جريًا على أصل مذهبه …”.
وعنِ المُنْسَرِح، جاء في (الجامع) للعَروضي (ص 188): “وهو قليل فيما زعم الأخفش”. وعن منهوكَي الرَّجَز والمُنْسَرِح (الجامع 188) ينقل العَروضي عن الأخفش مقالةً طويلة، مفادها: “أن الأخفش لم يكن يرَى ما كان على جزأين – [من الرَّجَز] – شعرًا، نحو قوله:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ
ولا الذي على جزأين من المُنْسَرِح، نحو قوله:
وَيْلُ امِّ سَعْدٍ سَعْدَا
بل ولا الذي على ثلاثة أجزاء من الرَّجَز والسريع؛ وهو المشطور”.
ومن ذلك قول العَروضي (الجامع 197) – وانظر (الوافي للتبريزي ص 148) -: “وأما المضارع فلم يسمع من العرب، كذا ذكر الأخفش”.
وقوله أيضًا (الجامع 199): “وزعم الأخفش في المُنْسَرِح: أن واو (مَفْعُولاتُ) زائدة، وأن سين (مُسْتَفْعِلُنْ) في الخفيف زائدة؛ لأن مسموع المحذوف أحسن من التمام”. قال: “وجازت الزيادة عنده، كما جاز النقصان”.
وقوله في الكامل (الجامع 202): “والأخفش يرى أن حذف السين [من (مُسْتَفْعِلُنْ)] أحسن من حذف الفاء؛ لأنه الحرف الذي أسكن، [بعد إضمار (مُتَفَاعِلُنْ)]”. ويقول: “كلما قرب من أول الجزء؛ كان الحذف فيه أحسن، وحذف الفاء كأنه في السمع أحسن”.
ومن ذلك قول المعري عن المُقْتَضَب (الفصول 1/132): “وزعم الأخفش أنه سُمع في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة”.
وكذلك قول العَروضي في الخَرْم (الجامع 172): “وأما الأخفش فأجازه في أول النصف الثاني، واستشهَدَ فيه بأبيات قد رُويت عن العرب”. ومثله قول الشنتريني فيه (المعيار 28): “وقد أجاز الأخفش هذا الضرب من النقصان في أول الشطر الثاني من البيت، والخليل يمنع ذلك”.
ولا شكَّ أنَّ كثرة مثل هذه النقول، وعدم وجودها في كتابه هذا، دليلٌ أكيد على أن للأخْفَشِ كتابًا آخر في علم العَروض، يتكفَّل الزمن بإظهاره.
ولقدْ صَدَر في العام (1996Ù…) كتابٌ لم يَكُنْ مُتاحًا لِلمُحَقِّق إبَّان التحقيق، وهو كتاب “الجامع في العَروض والقَوافِي”ØŒ لأبي الحسن، أحمد بن محمد العَروضي (ت 342هـ)ØŒ وهو من أقدم كتب العَروض التي وصلتنا كاملةً، وأقْربِها إلى عصر الأخفش – (ت 215هـ) – بعد كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه (ت 328هـ)ØŒ أشار فيه مصنّفه إلى أخذِه عن كتاب شيخه أبي إسحاق الزَّجَّاج – (ت 311هـ)ØŒ زائدًا في شرحه وتقريبه، وملحِقًا به من الزيادات التي لم يذكرها الزَّجَّاج عدَّة أبواب؛ كباب فلك الدوائر، وباب معاياة العَروض، وباب استخراج المُعَمَّى، وباب استقصاء الحُجَّة على من طعن في العَروض، والرد على الناشئ (العَروضي).
ويَبْدُو واضحًا للعيان تأثُّر المؤلّف بكتاب الأخفش، وأخذه عنه؛ فإضافة لما نقلناه عنه في متن المقالة، تتطابَقُ في الكتابين أسماء الأبواب التّسعة الأولى – مع اختلاف في الترتيب – جعلها العَروضي قسمًا قائمًا بذاته، وهي:
1- باب معرفة الساكن من المتحرك.
2- باب الجمع بين الساكن والمتحرك.
3- باب الوقف والابتداء.
4- باب تفسير الأصوات.
5- باب الهجاء [التهجئة].
6- باب الاحتجاج للعَروض.
7- باب الخفيف والثقيل.
8- باب أول الكلمة وآخرها.
9- باب ما يحتمل الشعر [من الضرورة].
وقد خصَّص القسم الثاني – وهو أكبر أقسام الكتاب – لأبواب البحور؛ بأعاريضها، وأضربها، وزِحَافاتها، كما تعرضها كتب العَروض الأخرى.
بينما أفرد العَروضي للقسم الثالث خمسة أبواب، تحدث فيها عن بعض الظواهر الجانبية في بحث العَروض، كباب التَّصْريع، والخَزْم (ما يزاد في أوائل الشعر)، والخَرْم (ما يحذف من أوائل الشعر)، وباب ما جاء مما لم يقله الخليل، وما لم يجئ مما قاله، ثم باب المقاييس والعلل (أو مقاييس الزِّحَاف)، وهو الباب الذي يتطابق – مرَّة أخرى – في طريقة عرضه مع ما تبقى من كتاب العَروض للأخفش، والذي تضمَّن ملاحظات خاطفة حول زِحَافات البحور – كلٌّ على حدةٍ، ومخالفات الأخفش للخليل في جواز بعض الزِّحَافات، أو المفاضلة بينها.
ويدل هذا على أنَّ الخرم في كتاب الأخفش، قد يكون أكبر بكثير مِمَّا أشار إليه المحقِّق؛ لأنَّه لابد أن يتضمَّن ما تضمَّنه القسم الثاني من كتاب (الجامع)ØŒ وهو القسم الرئيس من علم العروض، والمخصَّص لأبواب البحور، بأعاريضها، وأضرُبِها، وزِحَافاتها، وإلا فإن للأخفش – يقينًا – كتابًا آخر في العروض، يتضمَّن القسم الأساسيّ من علم العَروض كما وضعه الخليل.
ومادام الأمر كذلك؛ فإنَّ قضيَّة استدراك الأخفش للبحر المتدارك – وإنكاره لبحرَي المضارع والمُقْتَضَب – لم تُحسم بعد، فربما كان في ذلك الجزء الضائع آراء أخرى ردَّدها كثيرون مِمَّن نقلوا عنه؛ حتَّى أصحبتْ أقرب إلى بدهيَّات العلم وأحكامه، وإن كنا في دراسة منفصلة – لم تنشر بعد – رجَّحنا بطلان هذه النسبة إليه.
وهذا أبو الحَسَن العَروضي، وهو أقربُ العَروضيّين إلى الأخفش، وكثيرًا ما أشار إلى آرائه، ومُخالفاته للخليل، يقول في باب المتدارِك: “لم يرَ الخليل ذكر هذا الباب البتة، ونحن نسميه الغريب”. ولو كان لهذا البحر ذكرٌ لدى الأخفش؛ لذكره بالتأكيد.
المراجع
1- ابن جني. كتاب العَروض، تحقيق: أحمد فوزي الهيب. دار القلم، الكويت، ط 1/1987م.
2- ابن عبَّاد، الإقناع في العَروض. تحقيق: محمد حسن آل ياسين. المكتبة العلمية، بغداد، ط1/1960م.
3- ابن عبد ربه. العقد الفريد. تحقيق: عبد المجيد الترحيني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1/1983م.
4- ابن القَطَّاع. البارع في علم العَروض. تحقيق: أحمد محمد عبدالدايم. المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة، د. ط/ 1985م.
5- ابن منظور. لسان العرب. دار صادر، بيروت، د. ط، د. ت.
6- الأخفش. كتاب القوافي. تحقيق: أحمد راتب النفَّاخ. دار الأمانة، بيروت، ط1/1974م.
7- الأصبهاني، أبو الفرج. كتاب الأغاني. تحقيق: عبد. أ. مهنا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2/1992م.
8- التبريزي، الخطيب. الوافي في العَروض والقوافي. تحقيق: فخر الدين قباوة. دار الفكر، دمشق، ط 4/1986م.
9- الجَوْهري. عَروض الورقة. تحقيق: محمد العلمي. دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1/1984م.
10- الدَّماميني. العيون الغامزة. المطبعة الخيرية، مصر، ط1/1323هـ.
11- الزمخشري، جار الله. القسطاس في علم العَروض. تحقيق: فخر الدين قباوة. المكتبة العربية، حلب، ط 1/1977م.
12- الشنتريني، ابن السراج. المعيار في أوزان الأشعار. تحقيق: محمد رضوان الداية. المكتب الإسلامي، دمشق، ط2/1971م.
13- شوقي، أحمد. الشوقيات. دار الكتاب العربي، بيروت، د. ط/ د.ت.
14- العَروضي، أبو الحسن. الجامع في العَروض والقوافي. تحقيق: زهير غازي وهلال ناجي. دار الجيل، بيروت، ط1/1996م.
15- المعري، أبو العلاء. رسائل أبي العلاء المعري. دار القاموس، بيروت، د. ط، د.ت.
16 – المعري، أبو العلاء. اللزوميات. دار صادر، بيروت، د.ط/ 1961م.

________________________________________
[1]ونظرًا إلى أن ابن عبد ربه الأندلسي، قد صرح أكثر من مرة بأنه نظر في كتاب الخليل، ونقل عنه؛ فلقد كان كتابه (العقد الفريد) – ولا يزال – واحدًا من أهم مراجع العَروض الخليلي. انظر (العقد) (6/270، 277، 288، 325).
[2] في الأصل “الياء والنون”ØŒ وهو خطأ.
[3] انظر (رسائل أبي العلاء المعري) (114).
[4] وهو كتاب صدر عام (1996م)، ولم يكن متاحاً للمحقِّق إبَّان تحقيقه كتاب الأخفش، نقل فيه مؤلفه كثيراً من آراء الأخفش.
[5] في الأصل: “والحداء غناء، وهم وكلامهم..”!!
[6] وردت في الأصل على (دراهم) بإثبات الألف أيضًا، وهو خطأ.
[7] وأخطأ المحقِّق في تقطيع البيتين، عندما عدَّ عَجُز البيت الأول هو: (مُفَاعَلَتُنْ مَفَاعِيلُنْ فَعُولُنْ)، بينما عدَّ عَجُز البيت الثاني هو: (مَفَاعِيلُنْ مَفَاعِيلُ فَعُولُنْ).
[8] بل وجدت في (البارع) أيضًا (ص 216) خطأً آخر في تعريف (المراقبة بين حرفين)ØŒ حيث عرَّفها بقوله: “أن يذهبا معًا، ولا يثبتا معًا”ØŒ والصحيح: (أن لا يذهبا معًا، ولا يثبتا معًا)Ø› أي: لابد من سقوط أحدهما.

Related posts

Leave a Comment