خمرة العروض، لصالح المعمري

لا طاقة لنا اليوم بالعروض وجنوده!

أذكرُ أني عندما كنتُ أدرسُ مادةَ “العَروض والقافية” في تخصص اللغة العربية بجامعة السلطان قابوس مع الدكتور العزيز محمد جمال صقر، كان ذلك قبلَ ثلاث سنواتٍ من الآن، أتى إلينا باختبارِ المنتصف الذي طالما كان يخوِّفُنا به، فأصبحتْ قلوبُنا عندئذٍ كأنها حُمْرٌ مُستنفِّرة، فَرَّتْ من قَسْوَرَة، ولكنه مع هذا وذلكَ، كان يَسْكبُ عليها شيئًا من ماءِ السَّكينة بين الفَيْنةِ والأخرى.

نعم، اقتربتْ ورقةُ الاختبار منِّي، ورأيتُ بعدَ أخْذِها عشرةَ أبيات، مَطلوبٌ تقطيعُها عَروضِيًّا. في الحقيقة كانت تلك الورقةُ تضُمُّ خلفَ جُدرانها حديقةً خضراء، يرتعُ فيها مَن وجد مفتاحَها. بالرغمِ أنَّ المفتاحَ بِيَدي، وكان خفيفا حَمْلُه، ظاهرًا حِلْمُه، لم أستطعْ إحكامَ قبضة اليدِ وهي مُمسكَةٌ به، والسببُ في ذلك عدمُ فَهْمِ فكرةِ السؤال الوحيد الذي ضَمَّهُ الاختبار، وإلا فإنه أعذبُ من الماء، وأجملُ من السماء، ولكن ما حيلةُ المُضْطَّرِ إلا ركوبُها. بدأتُ في الحَلِّ، راجيًا من بعضِ الأبياتِ الحِلَّ، وبعضٌ غَصَبتُ أرضَها كالمُحتَلِّ، ولكن هيهاتَ هيهاتَ، لقد انقلبَ السِّحرُ على الساحر، ورُمْتُ تقطيعَ بيتٍ أو ثلاثة.

ها قد اقتربتِ المغادرةُ، وقبلَ تسليمِ الورقةِ كتبتُ في آخرِها: “لا طاقةَ لي اليومَ بالعَروضِ وجنودِه!!”ØŒ ثم سلَّمتُها للمصيرِ المجهول. لم أكنْ وحدي الذي وقعَ في حَيْصَ بَيْص، سمعتُ طالبة من الخلف بصوت غاضب وهي خارجة: “هذا اختبار أو تعجيز!ØŸ”. لم يكنِ الاختبار كذلك، فكان تخويفُ الدكتور قبله من باب تكثيف المراجعة والاهتمامِ لا غير.

لم أقفْ عند هذا الحدِّ، فَفِعْلَتي في الاختبار لا تَسرُّ الناظرين! أرسلتُ بعد دقائقَ من خروجي من القاعة رسالةً للدكتور، مَفادُها:

“خَمْرَةُ العَروض! “

حُبُّ العَرُوضِ سَقَاني خَمْرَه ُوَعَلا
يَومَ النّزالِ فَلا مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلا

ما حِيلةُ العَقلِ إنَّ الرّاحَ أسْكرَه
أمسى”البسيطُ” إذا أنْشَدْتُهُ “رَمَلا”

تقاذفَ “البحرُ” أفكاري وأغرقَني
طوْقُ النّجاةِ عَدوّي لا أَرى أَمَلا

“أُدَنْدِنُ”البحرَ لكنْ دُونما وَتَرٍ
“أَزُرْقَةُ اللّحنِ” عُذرًا فالنّدَى رَحَلا

أحاولُ “الوصفَ” Ùˆ”التقطيعَ” مْجتهدًا
ما كلُّ ما يتمنَّى المرﺀُ قدْ حَصَلا

فاقْبلْ هُديتَ سبيلَ الرُّشدِ قافيةً
جاﺀتْكَ ناكسةً للرأسِ.. وا خَجَلا

تلميذك المقصّر/ صالح بن ناصر المعمري

ما إنْ قرَأَها حتى أرسلَ جوابًا لا أزال أتذكَّرُه إلى حينها : “الله الله الله.. ننظرُ في أمرك حينَ نلتقي”

وفي الأخير أعادَ الاختبارَ للجميع، سواء من رَتَعَ فيه أو وَقَعَ، وليس مراعاةً لي فَحسب، ومن حُسْنِ أخلاقه -وهو دائمٌ كذلك- أنه سجَّل لنا الدرجة الأعلى التي نحصل عليها من الاختبارين سواء الأول أو المُعاد.

أَحْكَمْتُ قبضَ المفتاحِ بعدَها، فَتَحَتُ، رَتَعْتُ، ثم على الدرجة النهائية حَصلتُ، فالفضلُ للهِ من قبلُ ومن بعد.

صالح المعمري
١٤٣٨ هـ

Related posts

One Thought to “خمرة العروض، لصالح المعمري”

  1. 117066

    سُـبحَـــــانَـه،
    لطَلَبَة العَرُوض تَجَـارِبُ تَتَشَــــابَه!

    حينما جَعَلَتْ أقلامي تَتَأَوَّه،
    تَسمَعُ أصْواتَ قَوَافيهم،
    يُؤذيها أيَّمَـــا إيذاء،
    لكنَّها صَابِرة مُحتَسِبة،
    سَبَّابَة يُمناي تتَألَّم،
    تَشْكِينِي لخليلٍ فِيهِم،
    يجلس أو يقف،
    بأقل من متر عن حقيقتي!
    هناك،
    قَدَمي اليسرى قدْ عَجزَتْ،
    لمْ تُطِقْ هُراءَ العَزْف،
    خِفْتُ أنْ تَجْمَد،
    لكنَّما زادَ الطِّينَ بَلَّة!
    أنَّ وَتري جُنَّ في اللحظة،
    فما كان للرَّمَل، تَحوَّل مَزيجًا،
    كاملًا مديدًا مع خفيف!
    يا لطيف!
    هـــــكذا،
    أسَرَتنِي الدندنات!
    بأي ذَنْب؟
    كنَّا نعتكف جماعة!
    نَتَشارك الأحْلام،
    أغرَّتنا الأمانيّ؟
    لكنْ حَقَّ عليها ذلك!
    فالظنّ لا يُغْني من الحقِّ شَيئًا.

Leave a Comment