حيل الشعراء ووسوساتهم لخميس قلم

في هذه الفضاءات المجازيّة: القصيدة، الذاكرة، نسيم البر، قرن الشمس، الحلم، الحشر Ùˆ غيرها وجد الشعراء العشاق سبلاً يتواصلون بها مع من فارقهم…
إيحاء:
”بيني و بينه  بـِيــد
وعالي جبال، و بحر“،
من شعر شعبي.
=================

أصبح ( وأضحى و ظلّ و صار وأمسى و بات ) الفضاء الرقمي مكاناً متاحاً لالتقاء الأقرباء البعداء و الأحباب الفرقاء وكلّ الذين منعتهم المسافة و الظروف من اللقاء في واقع المكان. لقد عملت المخترعات العلميّة – من هواتف وحواسيب وغيرها- على محاكاة الأصوات والصوّر الواقعيّة عبر ترجمتها لترددات الموجات الصوتيّة وفوق الصوتية و سواها من الذبذبات الأثيريّة التي تتحول – بفضل أجهزة استقبال خاصّة – إلى صور وأصوات افتراضيّة. قربت تلك الوسائط الحديثة المسافات بل ألغتها وجعلت من هذه الأرض غرفةً واحدة.  بهذا وجد العشّاق في العالم الموازي مستوعَباً لهمساتهم… ( و هكذا ضحك العِلم على البُعد و المسافة ).

وقديماً بحث الشاعر العاشق عن حيَلٍ ليراوغ  الرقباء، فحيناً يستتر بالليل ليلتقي بمن يُحب في غفلةٍ عن عيون الوشاة:
لا تلقَ إلاّ بليلٍ من تواصله     فالشمس نمّامة والليلُ قوّادُ
كم عاشقٍ و ظلام الليل يستره
لاقى الأحبّة والواشون رُقّادُ

نعم الليل قواّدٌ لابن المعتز، و سواده شافعٌ للمتنبي:

أزورهم و سواد الليل يشفع لي
و أنثني و بياض الصبح يغري بي

يتستر العاشق بجناح الظّلمة لكي لا يسبب لمعشوقته أذىً؛ إنّما ماذا لو تعذر اللقاء؟  ماذا لو ضاق عليهما الليل؟ لو مُنعت الحبيبة من وصل مُحبّها؟؟

يُجيب قيس ابن ذريح:
فإن يكُ لبنى حال من دون وصلها
حجــابٌ منيعٌ ما إليه سبيلُ
فإنّ نسيم البـــرّ يجــمعُ بينــنا
و نبصر قرن الشمس حين تزولُ

يغدو نسيم البرّ مجالاً للتوحّد مع الحبيبة، و قرن الشمس مخرجاً من الحيز الأرضي تلتقي فيه نظرات المحبين، أليست تلك حيلةً ذكيّةً لخلق أفق للاتصال!
و يُجيب المجنون:
فإن تمنعوا ليلى و تحموا ديارها
عليّ فلن تحموا عليّ القوافيا

قيس لن يعدم الحيلة في لقاء ليلاه، سيجلبها إليه إذن في خيمة اللغة، في بيت الشعر، في قصيدته المؤنسة. في القصيدة يجد المجنون متسعاً لحياةٍ مجازيّة تعوّضه عن خسارته في الواقع، فيصنع من قصته مع ليلى العامرية أسطورة يتغنى بها الشعراء، و تتوارثها الأجيال.. هكذا يستجلب الشاعر محبوبته إلى بيت القصيد.بل إنّه في مطلع القصيدة يؤسس لفضاء ذهنيّ آخر، فضاء الذاكرة يستحضر مشغوفته ويلهو معها فيه:

تذكرتُ ليلى والسنين الخواليا
وأيام لا نخشى عن اللهو لاهيا

مكررا تلك الحيلة في قصائد أخرى:

تذكرتُ ليلى وهي ذاتُ تمائمٍ
ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البَهمُ

و مازال المجنون وليلاه يمارسان لهوهما البريء في عالمي الشعر والذاكرة. لكن هل سيكتفي المجنون بالحيلتين السابقتين؟

على الإطلاق، فهو في مؤنسته أيضاً يتوسّل الحلمَ حيّزاً مكانيّا افتراضيّاً  للقاء:

وإنّي لأستغشي و ما بي نعسةُ
لعلّ خيالاً منك يلقى خياليا

فرغم أرق قيس بن الملوّح و سهره مفكراً في سبيل ليرى شاغِلَةَ قلبه، يتناوم على أمل أن يزوره طيفها في المنام..
يا لها من حيلة!!

الحلم بناءٌ فسيح لا قواعد له.. الحلم منزل العاشقين.
لكن ماذا سيحدث لو علم أهل المحبوبة أنّ طيف حبيبها يقصدها في الأحلام؟
لربما منعوها من النوم لذلك. ولذلك كان لابد للشاعر ” ماني الموسوس ” أن يكون حذراً وينبّه طيفه حين يزور حبيبته  في فضاء الحلم أن يلتزم السريّة:

فتنفست، ثمّ قلت لطيفي
ويك إن زرت طيفها إلماما

حيّها بالسلام سرّا وإلاّ
منعوها لشقوتي أن تناما

و أغرب حيلة انتهجها الشعراء للقاء محرومته التي حالت صروف الزمان و ظروف المكان عن لقائها هي حيلة ابن زيدون، حيث يجعل من حشر الناس في موقف القيامة فرصة للقاء:

إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم
في موقف الحشر نلقاكم و يكفينا

في هذه الفضاءات المجازيّة: القصيدة، الذاكرة، نسيم البر، قرن الشمس، الحلم، الحشر و غيرها وجد الشعراء العشاق سبلاً يتواصلون بها مع من فارقهم ( وهكذا ضحك الشعر على البعد والمسافة ).

وبين ضحكة الشعر و ضحكة العلم زمنٌ ظلّ فيه الشعراء يوسوسون للعلماء حتى يجدوا عالماً لا يعرف الحدود يجتمع فيه كلّ المحبين و الأصدقاء و الأقرباء البعداء، فكان ” الإنترنت “.

Related posts

Leave a Comment