محاولة حوسبة المؤنث للدكتور خالد بن سليمان الكندي

… ولكن في اللغة العربية إشكالات تقف أمام الخطوتين السابقتين، وهي إشكالات بعضها يمكن معالجته وبعضها يعسُر معالجته، وسنقتصر على الإشكالات التي يَعْسُر تجاوزها.

ليس عجيبًا بعد تقدّم الحاسوب أن يسعى اللغويون إلى حَوْسبة اللغات، ومحاولة جعل الحواسيب قادرة على تصحيح أكبر قدر من المفردات والتراكيب، وسيجد كل من يبحث في الإنترنت آلاف البرامج المعنيّة بالتدقيق اللغوي في اللغات المختلفة؛ لكن هذه البرامج تواجهها مشكلات جَمّة في العربية أهمّها مُعْضِلة المؤنث.
وقد اعتقد د.عصام نورالدين أن الحاسوب قادر على التمييز بين المؤنث والمذكر في العربية، وقدّم مقاربة لذلك في كتابيه “المصطلح الصرفي: مميزات التذكير والتأنيث” Ùˆ”مصطلح التذكير والتأنيث: المذكر والمؤنث الحقيقيان” حيث يقول إنه توصل فيه إلى أن تاء التأنيث هي مُمَيِّز التأنيث الأكثر انتشارًا، ولذا فهي المميز القياسي، وأن ما عداه يسمع ولا يقاس عليه، فالتاء تؤنِّث لغويًّا الأسماء التي تتصل بها، وأما ما لم تتصل به فهو من الأسماء المذكرة لغويًّا. ويقول أيضًا إنه ذكر في هذا الكتاب أن مميز التاء استعمل في كلمات اللغة لتمييز المؤنث من المذكر دون النظر إلى وزن الكلمة ولا معناها ولا اختصاصها بالأنثى أو الذكر. وخلَص إلى النتائج الآتية:
1) كل كلمة دخلها مميز التأنيث هي مؤنثة لغويًّا.
2) كل كلمة لم يدخلها مميز التأنيث هي مذكرة لغويًّا. أما ما سمع فيه التأنيث فيحفظ ولا يقاس عليه.
3) كل مؤنث حقيقي (ما له فرج) هو مؤنث لغوي (مقعّد).
4) يجوز إدخال مميز التأنيث على الصيغ التي قال النحاة إن التاء لا تدخلها إذا كانت مختصة بالأنثى.
ويمكننا أن نعلق على هذه المحاولة بأن الحاسوب محتاج إلى خطوتين للتعامل مع المؤنث:
الخطوة الأولى: اكتشاف المؤنث في السياق وتمييزه من المذكر.
الخطوة الثانية: منح هذا المؤنث امتيازاته وتطبيق قواعده والخيارات المتاحة له على أفعاله وضمائره ونُعُوته وكل ما يعود عليه.
ولكن في اللغة العربية إشكالات تقف أمام الخطوتين السابقتين، وهي إشكالات بعضها يمكن معالجته وبعضها يعسُر معالجته، وسنقتصر على الإشكالات التي يَعْسُر تجاوزها. وسبب صعوبة معالجتها إما لأنها إشكالات تطرد في بابها فيقاس عليها أمثلة الباب، أو لأنها إشكالات تتعلق بخَيَارات المتكلمين التي أتاحتها لغتُهم لهم، أو لأنها إشكالات تتعلق بالقرائن المعنوية للمؤنث التي يصعب على الحاسوب فهمها. ونعرض هذه الإشكالات فيما يلي:
الإشكال الأول: جموع التكسير:
إن جموع التكسير يَغْلُب عليها التأنيث المعنوي على اختلاف أوزانها، ونمثل لها بالأقلام، والمذاهب، والعيون. وثمة أسماء وصفات من جموع التكسير ليست مؤنثة، وهي الأسماء والصفات التي تخص جمع العاقل مثل الأقوام والرجال والأصدقاء والأحباب. والإشكال في جموع التكسير أنها أوزان يقاس عليها، ولا يمكن حصرها؛ لأن كل كلمة جديدة تدخل العربية على وزن من أوزان جموع التكسير تحتاج إلى أن تُدْرَج تحت قائمة الأمثلة التي على وزنها، وهي عملية تحتاج إلى متابعة مستمرة. ومثالها الْمَرَاوِح، والكوابِح، والْغُدَد.
الإشكال الثاني: الأوصاف التي تصلح للمذكر والمؤنث:
إن المؤنث من حيث اطراد علة تأنيثه ينقسم إلى مؤنث قياسي تطرد علة تأنيثه في بابه، ومؤنث سماعي يحفظ ولا يقاس عليه، ويهمنا أن نطرح هذا لنعرب عن إشكال كبير تواجهه حوسبة الأسماء المؤنثة هو الأوصاف القياسية التي تصلح للمذكر والمؤنث، وتَذْكُرُها كثير من كتب النحو والصرف، نذكر منها: فَعِيل بمعنى مفعول مثل: قَتِيل. ومِفْعَل مثل: مِغْشَم. وفَعُول بمعنى فاعل للمبالغة مثل: صَبُور. وفَعّالة للمبالغة مثل: نَسّابة. وفَعُولة للمبالغة مثل: فَرُوْقة. وفُعَلَة للمبالغة مثل: ضُحَلَة. ومِفْعالة للمبالغة مثل: مِحْذامة. ومِفْعال للمبالغة مثل: مِسْقام. ومِفْعِيل للمبالغة مثل مِعْطِير.
فهذه الأوزان تفتح بابًا مقيسًا لكل الأوصاف التي تأتي على زِنَتِها، ولبعضها ضوابط كما هو حال وزن فَعِيل بمعنى مفعول إذ يشترط فيه أن يتقدمه الموصوف وإلا قيل (مررتُ بقتيلتهم). وكذلك إذا خرج من الصفة إلى الاسم جاز إلحاق التاء به: ذَبِيحة ولَقِيطة. ومن الملحوظ أن ما أدخلت عليه العرب تاء التأنيث من الأوصاف الواقعة على المذكر والمؤنث يحفظ ولا يقاس عليه؛ لأنه لم يطرد بل جاء في بعض لهجات العرب، أو ورد في كلمات محدودة، ومَن يذكره من المصنِّفين يُنَبِّه على ذلك.
الإشكال الثالث: دخول قرائن التأنيث اللفظية على غير المؤنث:
تدخل قرائن التأنيث اللفظية على غير المؤنث دخولًا قياسيًّا تارة ودخولًا سماعيًّا تارة أخرى، وذلك في الحالات الآتية:
1- تدخل تاء التأنيث على الأوصاف للمبالغة مثل نسّابة، راوية، فَرُوقة. وللدلالة على النسب مثل المهالبة والأشاعثة. وللتعويض مثل الجحاجحة والفرازنة. وللدلالة على الجماعة مثل البصرية والمروانية. كما تدخل على أسماء الفاعلين المنقوصة في حال جمعها مثل الْهُدَاة والرُّماة.
2- تدخل الألف المقصورة على بعض الأسماء للدلالة على الجمع مثل الأسرى والجرحى، أو المصادر مثل الذكرى، أو صفة الرجُل مثل الكَيِصَى (الذي يأكل وحده).
3- تدخل الألف الممدودة على الجمع مثل الأصدقاء والكرماء.
4- تدخل الألف والتاء على مصادر الأفعال التي لامها تاء نحو الفَوَات، والثَّبَات، والْمَمَات، والشَّتَات، والسُّبَات، والإثبات، والإخبات، والإنصات.
5- استمرار الناس منذ القديم إلى يومنا في تسمية كثير من أعلام الذكور بأسماء مختومة بقرينة من قرائن التأنيث اللفظية، ويكفي أن نفتح كتاب الاشتقاق لابن دريد لنجد الوَفْرة الوافرة من هؤلاء الأعلام، فمنهم: عَطِيَّة بن الحارث، وأعْشَى هَمْدان، ومُزَيْقِياء بن عامر، وحَيَّا بن عادِيَاء.
الإشكال الرابع: تَقَلُّب بعض الأسماء بين التذكير والتأنيث:
كان أبو عمرو بن الحاجب الكردي، الدويني الأصل، الإسنائي المولد (571-646هـ) قد نظم “القصيدة الموشحة في الأسماء المؤنثة” في ثلاثة وعشرين بيتًا ليجمع فيها كل الأسماء المؤنثة التي ليست لها علامة تأنيث؛ معتقدًا أن طالب العلم لو حفظها لارتاح من شرِّ المؤنث في العربية! وقد تعقَّب رأيَه محقق قصيدته د.طارق نجم عبدالله باحثًا في شتى كتب التراث ليتدارك عليه تفصيلات تتعلق بالأسماء الستين التي قال ابن الحاجب إنه لابد من تأنيثها، ويمكن أن نصنف ما تضمنته تعقيبات المحقق طارق على ابن الحاجب على النحو الآتي:
1- بعض الأسماء من المشترَك اللفظي، فتكون مذكرة إذا عُنِيَ بها أحد معانيها المشترِكة، ومن ذلك الرِّيح إذ تُذَكَّر إذا قُصِد بها الأرج والنَّشْر.
2- لا يتفق العلماء على وجوب تأنيث كل الأسماء الستين التي أوردها ابن الحاجب، بل يرون أن بعضها مما يُذَكَّر ويُؤَنَّث ولو لم يكن من المشترك اللفظي، ومن ذلك الدلو، والجحيم، والنار.
3- بعض تلك الأسماء الستين ألفاظ أطلقت على أسماء ذات جنس حقيقي؛ لكنها ألفاظ تقال للمذكر منها وللمؤنث، نحو العقرب والأرنب، والثعلب.
4- بعض الأسماء الواجبة التأنيث التي ذكرها ابن الحاجب قد تعامل معاملة المذكر إذا حُمِلَتْ على معنى لفظ مذكر مثل الأرض حينما يحملها الشاعر على معنى البساط.
5- تختلف القبائل العربية في نطق بعض تلك الأسماء، ومع اختلاف النطق يختلف الجنس، فبنو تميم يقولون “العُضُد” فيؤنثون، وغيرهم يقول “العَضُد” فَيُذَكِّر.
6- بعض تلك الأسماء مختلَفٌ في عُرُوبَتِها، فالفردوس اختلفوا فيها أرومية أم نبطية أم عربية؟ ولأجل عدم التثبت من أصلها وردت مذكرة ومؤنثة.
7- من العجيب أن يُلْزِم ابن الحاجب لفظةَ الفُلْك بالتأنيث، وقد وردت في القرآن مذكرة ومؤنثة دالة على المفرد تارة وعلى الجمع تارة أخرى، فتذكيرها وهي مفردة في قوله تعالى: {وترى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فيه…}. وتأنيثها وهي مفردة في قوله تعالى لنبيه نوح عليه السلام: {فأوْحَيْنا إليهِ أنِ اصْنعِ الفُلْكِ بِأعْيُنِنا ووحْيِنا فإذا جاءَ أمرُنا وفارَ التَّنُّورُ فاسْلُكْ فيها مِن كُلِّ زَوجَيْنِ اثنينِ وأهْلَكَ إلا Ù…ÙŽÙ† سَبَقَ عليه القولُ…}. وتأنيثها وهي جمعُ قِلَّةٍ في قوله {…حتى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ…}. وتأنيثها وهي جمعُ كثرةٍ في قوله تعالى {وسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ في البحرِ بأمرِهِ…}
الإشكال الخامس: الحمل على المعنى أو اللفظ:
يمكننا أن نصف إمكان المتكلم أن يحمل كلمة على معناها تارة وعلى لفظها تارة أخرى- أكبر مشكلة تواجه الحاسوب في التمييز بين المذكر والمؤنث، ذلك لأنه يفتح بابًا للمتكلمين بأن يتحدثوا عن المؤنث بالتذكير، ويتحدثوا عن المذكر بالتأنيث، وهو باب لا تحده قيود كثيرة؛ بل يكفي أن يكون بين لفظتين رابط معنوي وتكون إحداهما من المذكر والأخرى من المؤنث حتى يستعمل المتكلم إحداهما على خلاف جنسها حملًا منه على معنى الأخرى. ولأهمية هذا الحمل وضع له أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني (ت255هـ) بابين في كتابه “المذكر والمؤنث”ØŒ وهما:
1- “باب من العدد يُحْمَل الكلام فيه على اللفظ مرة وعلى المعنى والأصل مرة”: تقول ((هذه غَنَمٌ ذكور؛ لأن الغنم مؤنثة اللفظ، فحملت الكلام على قدر اللفظ)).
2- “باب من الإضافة يُحْمل الكلام فيه على المضاف إليه لا على المضاف، وهو على المضاف أحسن وأكثر”ØŒ ومنه قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أعناقُهم لها خاضعين}ØŒ ((كأنه قال: فظلُّوا لها خاضعين، ولم يذكر الأعناق)).
ولك أن تتخيل كيف يمكن للحاسوب أن يفرق بين رجل اسمه عَرَفات والموضع المقدس المعروف في مناسك الحج، قال سيبويه عن أستاذه الخليل بن أحمد: ((وقال في رجل اسمه (مُسْلِمات) أو (ضَرَبَات): هذا ضرباتٌ كما ترى، ومسلمات كما ترى، وكذلك المرأة لو سميتها بهذا انصرفت)). واستفاض ابن الأنباري في تخيل حالات عدة من هذا النوع ومناقشة حكمها.
الإشكال السادس: خصوصيات المؤنث:
راعت العرب خصوصية الأنثى، فلم تر داعيًا إلى تأنيث أوصافها التي لا يشاركها فيها الذكور، قال السجستاني: ((فإذا كان نعتًا لا حظّ فيه للذكر لم تحتج فيه إلى الفصل، فحذفت الهاء ليكون اللفظ أقل وأخف. تقول: امرأة حائض؛ لأن الرجل لا يحيض)).
ثم إن العرب راعت المؤنث عمومًا ففضّلت في فعله إذا فصل بينهما فاصل ألا تلحقه تاء التأنيث، يقول سيبويه: ((وقال بعض العرب: قال فلانة، وكلما طال الكلام فهو أحسن، نحو قولك: حضر القاضيَ فلانة)). والمؤنث العاقل المفرد إذا باشر الفعل أُنِّثَ فعلُه إلا في الأفعال الجامدة: ((واعلم أن نِعْمَ تؤنث وتذكر، وذلك قولك: نِعْمَتِ المرأة. وإن شئت قلت: نِعْمَ المرأة؛ كما قالوا: ذهب المرأةُ، والحذف في نِعْمَتْ أكثر)).

Related posts

Leave a Comment