الغذامي يكتب عن أمه الجهنية لعلي بن حمد الفارسي

لمّا كتب الغذّاميّ عن أمّه فاطمة بنت صالح الجهنيّة إنما يكتب عن أمهاتنا كلنا نحن المنطوون تحت هذه الثقافة، فليست الكتابة عن الجهنيّة عند الغذّاميّ مجرد تعبير عن عاطفة أو برّ اتجاه فضائل أمّه بل المسألة أكبر من ذلك…

لقد كان ومازال الناقد الخليجيّ المعروف عبد الله الغذّاميّ من رعاة التنوير ودعاته في منطقة الخليج العربي منذ خمسين عامًا وهو يصارع النسقيّة والرجعيّة الثقافيّة ويروّج لثقافة تمجِّد الآخر المهمّش لا تجعل منه مركزًا بل ليكون شريكًا في الحياة، هذا المهمّش قد يكون في ثقافتنا نحن العرب المرأة: الأم والأخت والإبنة وقد يكون من المستضعفين من الرجال أو النساء أو الولدان.

لذلك لمّا كتب الغذّاميّ عن أمّه فاطمة بنت صالح الجهنيّة إنما يكتب عن أمهاتنا كلنا نحن المنطوون تحت هذه الثقافة، فليست الكتابة عن الجهنيّة عند الغذّاميّ مجرد تعبير عن عاطفة أو برّ اتجاه فضائل أمّه بل المسألة أكبر من ذلك، فالقضية أنّ هذا الأكاديميّ يعيش همّ التصحيح الثقافيّ ومحاولةً منه إضعاف الثقافة الفحوليّة (ثقافة البطش وتمجيد الرجل وقيم تدمير الآخر التي تربّى عليها وتشرّبها الإنسان العربي من الخطاب المتشعرن)، والدليل على ذلك أنه لم يكتب عن أبيه شيئًا ذا بالٍ يذكر مقارنةً بما كان يكتبه عن فاطمة الجهنيّة.

وإذا صادف فكتب عن أبيه شيئا فإنما كان يَرِدُ هذا الأب في حديث الغذّاميّ بوصفه شاهدًا أو ساردًا لذاكرة تاريخيّة ثقافيّة فحسب، ولا توجد تلك العلاقة الجوهرية بينهما إلا في أقوال شكليّة تتمثل في قول الغذّاميّ “قال: رحمه الله”ØŒ Ùˆ”كان رحمه الله”ØŒ بينما كان الحديث عن الأم عند الغذّامي حديثًا عاطفيًّا وجوديًّا والقضية الأولى لدى هذا الناقد الثقافيّ الأصيل.

فالحديث عن الجهنيّة جرّ حديثًا طويلاً امتدّ ليشمل كتابًا كاملاً بل ربما قد تكون في المستقبل كتبًا !

كل هذا الحديث كان عن: الجهنيّة في لغة النساء وحكاياتهن، فقد عرض صاحبنا فعل الثقافة في مواجهة المرأة ومحاولة الناقد الثقافيّ تشريح هذه الأفعال الثقافيّة المتغلغلة في الأنفس والعقول.

فكل تلك الحكايات التي اندرجت تحت هذا الكتاب كان البطل الأول فيها المرأة لا الرجل، المرأة الأم الرحم الرحوم الرحمة /الوالدة الولود الودود التي ترضع خمسة من الأفواه الجائعة بل يزيد، فلا عجب ولا غرو -على طريقة العرب في رفع مستوى التعجّب- أن يتذكر الغذّاميّ “الخمسة الذين كانوا يرضعون من صدرها على مدى عامين، ولم تكل ولم تضجر ولم تبخل، وكانت تتلقى الدعاء بابتسامة وفرح”ØŒ (الغذّاميّ: الجهنيّة).

هذا العطاء استمر إلى زمن الوفاة حتى أبت تلك الأم/الأمهات إلا أن تشارك طفلاً رضيعًا في رحمتها وعطفها، فـ”حينما حملنا النعش في تلك العصرية البهية بالحب والرحمة، لاحظتُ أن شيئًا ما أسود اللون يتحرك لوحده وعجبت من شيء لم أفهم سره وتلفّت عاجزًا عن السؤال فقال المغسلون: هذه جنازة لطفل رضيع ليس له نعش، ووضعناه مع أمك في نعشها، الله أكبر هذه هي الجهنيّة التي احتضنت الأطفال الرضع ووضعت الكل في صدرها الحنون وعاشت محبة معطاء، وهاهي تذهب إلى ربها وفي حضنها طفل رضيع تزفه معها إلى الجنة”ØŒ(الغذّاميّ: الجهنيّة).

وقد أورد الغذّاميّ حكايات نسوية بطولية كثيرة في هذا الكتاب حكايات أخذت من الذاكرة الشعبية والذاكرة الثقافيّة العربيّة بل العالميّة وكان حديثه عن أمه هو الذي أطلقها، ومن تلك الحكايات التي أثارت اهتمامي وشغفي وقد أثار تحليل الدكتور عبدالله انتباهنا جميعًا موقف الثقافة العربية “الفحوليّة” من المرأة/ البطل(Ø©)[1]ØŒ فقصة الزّبّاء أو أسطورة الزّبّاء، ويقصد بها كما يرى الغذامي طويلة الشعر وهي ملكة عربية معروفة، حينما تمرد عليها حصن مارد (بالجوف/المملكة العربية السعودية) مدت شعرها حول الحصن وأطاحت به كما تقول الأسطورة وكذا فعلت بحصن الأبلق أيضًا، فهذه القيمة الجمالية لدى المرأة تحولت إلى قوة أسطورية ولكن أبت الثقافة الذكورية كما يرى الغذامي- إلا أن تكسر هذا الانتصار النسوي/ الأسطوري، وتحوله إلى هزائم، فكلما حكت الكتب عن مجد لهذه الملكة الأسطورية، راحت تسلب هذا المجد بأن تحولها إلى امرأة خائنة وغدارة، تقتل الرجال وتغدر بهم واحدًا تلو آخر حتى انبرى لها رجل يدعى (قصير)ØŒ فأصبحت مواجهة بين:

المرأة/ الطويلة/ الملكة/ الأسطورة ≠  وبين الرجل البسيط/القصير/ الذكي

فقد دفعت الثقافة الذكورية بأصغر جنودها شأنًا وقوةً ومكانةً لكي تتخلص من المرأة الأسطورية المرأة التي أزعجت الرجال وحاولت أن تنافسهم وتقاومهم، فالرجل كما تقول الثقافة: أشد ذكاءً وقوةً وبطشًا وشجاعةً وحريٌّ به أن يظل كذلك دون منازع أو منافس، ورغم أن هذه القصة تشير إلى خبث “قصير” وخداعه وخيانته الأمانة إلا أن التاريخ الثقافيّ العربي مجدّ أفعال قصير هذا، ورفع قدره وأعلى شأنه، وهذا كما يقول الغذامي: لأن الثقافة تريد أن تعاقب أي امرأة تطاولت على الفحول، فكان المدونون لها بالمرصاد حيث حرّفوا القصة ليجعلوا أفعال النساء مادةً للسخرية مهما بلغت من القوة أو النجاح (الغذامي: الجهنيّة).

وقد سأل كاتب هذه السطور الغذامي يومًا في إحدى محاضراته الشيّقة، بقوله: أنت دائمًا تصف الثقافة العربية بأنها ثقافة فحولية/ ذكورية فما تعليقك على أنّ بعض الناس/البدو في بادية السلطنة وصحاريها مازالوا يتسمّون بأسماء أمهاتهم ويتشرفون بذلك ولاسيما الأبطال منهم والشجعان الذين يعتبرون في الذاكرة الوطنية من الأبطال القوميين، أمثال: سالم بن كبينة وسالم بن غبيشة وغيرهم من مرافقي الرّحّالة البريطاني المشهور ويلفرد ثيسجر (مبارك بن لندن) في اجتياز المجهول: صحراء الربع الخالي، ومن قبله مرافقو الرّحالة برترام توماس أمثال: ابن كلوت، بل إن تلك الثقافة لمّا أرادت أن تُكرم ويلفرد ثيسجر على سماحة خلقه وعطفه وكرمه البالغ لهؤلاء البدو المرافقين وتشبهه بأخلاقهم أطلقت عليه اسم مبارك بن لندن على اسم أمّه/الأرض التي أتى منها: العاصمة البريطانية لندن ؟

فكان جوابه كما أتذكر الآن: هؤلاء البدو ما زالوا على الفطرة والأثنى في الصحراء وفي هذه المجتمعات البسيطة مازالت لها قيمتها الوجوديّة فلم يتأثروا كثيرًا بالثقافة النسقيّة كما هي عند بعض المناطق الأكثر تحضرًا من ناحية العمران وليس من ناحية الفكر، وليسمح لي الغذّاميّ إذا غيرت شيئا مما قاله فإنما امتح من الذاكرة فحسب.

فحريّ بنا ونحن نتعامل مع أمهاتنا النساء ألا نكتفي بالبر والعرفان فحسب بل لا بد من وعي ثقافي يتجاوز فعل الأنساق المضمرة التي تجبر الإنسان على تصرفات سلوكيّة خاطئة أو تعميمات رجعيّة اتجاه المرأة لا لشيء إلا لكونها امرأةً فحسب، بل ربما تشارك الأم في تعزيز هذه القيم في الصبي الصغير دون وعي بأنها من فعل الثقافة وليس من وعي العقل والمنطق أو الدين، وقد تكبر هذه الأفكار مع مرور الأيام حتى تتحول إلى قيم ثابتة مع الصبي يمارسها ضد الأم أو أي أنثى أخرى قد لا تندرج مثل هذه الممارسات الثقافية ضمن العقوق وسوء الخلق ولكنها حقوق كانت لأمي وأصبحت مع فعل الثقافة تحت هيمنتي أنا/الرجل، أبسط تلك الحقوق: الحق في إبداء الرأي ومشاركة الحوار والتصويت وأرفعها الريادة والقيادة والسياسة كما تفعل المستشار(ة) أنجيلا ميركل أو الوزير (ة) هيلاري كلينتون.

[1] – يرفض النحاة العرب إضافة (التاء المربوطة) إلى الصفات حينما يراد منها التأنيث فلا يقال: امرأة مرضعة بل مرضع ولا يقال: امرأة حاملة بل حامل، ولا يقال: امرأة عانسة بل عانس، والمثال السابق ينطبق عليه هذا الحكم، ونرى أن هذا الحكم إنما خضع لثقافة الذكور وليس في منطق اللغة ما يؤيده بل وجدنا أمثلةً كثيرةً فصيحة تنقض هذا المنطق الذكوري.

Related posts

Leave a Comment