لا تطعم الحمام في مانهايم لطارق سليمان النعناعي

هل يكفي أن تكون جميلاً دون أن يراك الناس جميلاً ، وهل يكفي أن تكون بريئًا دون أن يشهدوا ببراءتك ، وهل يصح أن تسلك سبيلاً دون خريطة للطريق ، وكيف تعرج ملائكة قلبك بك إلى السماء وتبقى حائرا في دروب الغابة.

تهدل الحمائم في أذني طالب الأزهر فقد كادت الشمس أن ترفع نقابها لتقبل وجه مدينة السلام ولم تذق عينا أحمد طعمًا لنوم فقد ظل طوال الليل يقرأ في الأدب الألماني فهو دائمًا من الأوائل، فلا بديل له غير التفوق، فلم يعتد شيئًا في حياته سوى الدراسة والتفوق. لكن شيئًا واحدًا استطاع أن يدلف إلى قلبه ويستوي على عرش لا يقل بهاء عن عرش العلم في نفسه ألا وهو الحمام.
لا يخرج أحمد من البيت حتى يطمئن على أسرته الطائرة ويضع لهم الماء والحب وهن يعرفنه ويقفن على رأسه وكتفيه وحينًا على ظهره أو يديه ويبادلانه حبًا بشوق ورعاية بهديل وهو لا يرى نفسه سوى حمامة بيضاء ألبسها الله ثوب إنسان فلا تميل نفسه إلا إلى الخير ولا يكره شيئًا أشد من العنف والشحناء. وكثيرًا ما يرى نفسه طائرًا معهم نحو السماء أو محومًا فوق بيته وأسرته من غير ذوي الأجنحة ولا يهبط إلى غرفته إلا إذا هاض جناحيه إفاقة من النوم فيجد نفسه في سريره عاري الذراعين من الريش.
واليوم يصحو يتحسس يديه العاريتين من الريش فلقد حلم بأنه يطير إلى ألمانيا في منحة الأزهر للمتفوقين فلابد له من الحصول على المنحة والمذاكرة ليلا ونهارًا ولينس أي شيء في سبيل ذلك ولا ينسى نفسه لا ينسى الحمام يصحو يذكره ، يغفو يحلم به. يذهب إلى الجامعة يحمله بين أوراق قلبه ويعود إلى بيته يشغله في خلواته.
عائدًا اليوم إلى بيته في الحافلة (الأوتوبيس العام) لا يشغله غير أنه قد تأخر بعض الوقت على أسرته الطائرة لكنه يفيق على وقوف الحافلة في غير محطتها وعندئذ يجري الحوار بين نفسه وعقله:
– لماذا توقفت الحافلة هنا؟ لعل السائق أراد أن يشرب كوبًا من الشاي أو يشتري شيئًا خاصًا لأهل بيته كما اعتاد ذلك السائقون، فعلى الركاب التزام الهدوء والصمت حتى لا تتحول الحافلة إلى الورشة بحجة الأعطال.
لكن السائق لم يبرح مكانه؟ إذن لا أدري لماذا توقفت الحافلة! فليست حافلتنا وحدها هي التي توقفت بل ثمة ثلاث حافلات. لا يرى إلا رجال الشرطة يصعدون الحافلات بأمر من ضابط يقف في الطريق. بدأ الجنود يتفحصون الركاب راكبًا راكبًا يتركون بعضهم ويتوجهون إلى البعض الآخر قائلين: أنت تعال! لماذا؟ ما الأمر؟ تفضل معنا! لكن أريد أن أفهم ستفهم قريبًا.
لم يشغل أحمد باله بما يحدث كثيرًا وانشغل بالوقت الذي يضيع ويحول بينه وبين أهليه؛ أهل الأرض وأهل الهواء، فلعل الشرطة تبحث عن لصوص أو مهربين أو تجار للمخدرات فهم أعلم بعملهم، فليأخذوا من أرادوا ويتركوا الحافلة تسير.
هنا يقترب الجنود من أحمد وينتظر هو أن يمروا حتى ينجزوا مهمتهم بيد أن أقدام الشرطي تتوقف لا تمر وترتفع يده مشيرة إلى أحمد: أنت تعال! يلتفت أحمد إلى من بجواره Ø› فلعل الشرطي أراد أحدا غيره … غير أن الشرطي يعيد الجملة مؤكدة: أنتَ أنتَ تعال! أنا؟ … نعم ØŒ أنا؟ لم؟ ما الأمر؟ ستعرف.. تفضل!
مذهولاً مترددًا ينزل أحمد من الحافلة تدفعه أيدي الشرطة معترضة وقوفه كلما أراد أن يسأل… _لا تتعجل سوف تعلم كل شيء، امض حيث تؤمر… وهنا يشعر أحمد أنه دودة قد جُمعت من أقطان ثلاث حافلات، ولا يذكر متى حصل على هوية الدود ØŒ ولم يكن يومًا من محافظة الطين. ولا يغزل صرخاتِ تساؤلاتِهِ في نفسه فينسجها أناتِ اضطرابٍ إلا مغزلُ كلمةِ أمنِ الدولة…
-أمن الدولة؟ لماذا؟ لم؟ ما الأمر؟…
-لماذا تلتحي أنتَ؟ من أي جماعة أنت؟
-أنا ملتحٍ! يقولها أحمد في ذهول فقد نسى مما نسى أن يحلق شعرات لحيته منذ أسبوع لانشغاله بالامتحانات فلم يكن كث اللحية ولطالما ردد في نفسه : انسَ كل شيء سوى الامتحان ومن تعول من إخوتك من بني الطير… ولم يكن يدري أن اللحية ليست مما ينبغي أن ينسى.
-أنا ملتحٍ؟ أنا نسيت فقط أن أحلقها.
لم يعر الضابط أحمد إجابة وصمت الضابط صمتا كأنما يوجه بصمته هذا أنظار من حوله إلى نجمتين على كتفه رافعا رأسه متجهما… ثم يقول: اذهبوا بهم إلى الزنزانة حتى يأتي ضباط أمن الدولة… لا تجدي الكلمات ولا التساؤلات شيئًا عن دفع أيدي الجنود التي ساقتهم جميعًا إلى الزنزانة سوق القطيع Ø› فكانت المرة الأولى في حياة الأزهري التي يرى فيها زنزانة حقيقية وليست في مشهد سينمائي، وها هو لا يراها فحسب بل هو حبيسها.
لم يكد باب الزنزانة يبتلعهم حتى رفرفت أجنحة ذهنه وحلقت من فرجة ضيقة بين قضبان نافذة السجن في اتجاه البيت، إلا أن اضطراب نفسه حال دون وصول طائره إلى أهليه فلم يجد ذهنه أرضًا سوى زنزانة نوح الملآى بالمياه كي يعود إليها.
ينظر كل منهم إلى الآخر، وبدأ بعضهم يحوقل ويحسبل، وبعضهم يتساءل عن اليوم… نعم أنا أعلم أنه يوم نحس منذ بدأ، وبعضهم يتلمس في الآخرين أذنا تصغى لتساؤلاته، والبعض شرع في صمت قد عقد العزم على مواصلة الرحيل…
منهم المدرس والعامل والطالب والمحاسب والحرفي والتاجر وهم على اختلاف أعمالهم ووجوههم يجمعهم في عقد واحد بعض شعرات في الوجه تطول أو تقصر.
يتساءل أحدهم ألم يأخذوا منا البطاقات؟ فلماذا يحتجزوننا؟ وإلى متى سنظل هنا؟
-كلنا مثلك لا ندري.
يصيح السائل على شرطي خارج الزنزانة ويعيد عليه الأسئلة عينها تدمع بالحيرة…
-كف عن الصياح، لا ندري.
-من الذي يدري إذن إن كنتم أنتم لا تدرون؟
-ستعلم بعد قليل، لكن أنتم محظوظون فلن نذهب بكم إلى لاظوغلي، وعندما يأتي الضابط ستعودون إلى بيوتكم.
-ومتى يأتي؟
-بعد ساعة.
-بعد ساعة نعود إلى بيوتنا! احتضنت كلمة ساعة طفل حيرته الباكي وكفكفت بعض دموعه، ساعة… ساعة وتمر…
تمضي الساعة تمضي الساعتان لا يأتي أحد… ألم يأت؟ ألم يأت بعد؟
-غدًا غدًا يأتي… رسمت كلمة غدًا بأناملها الشوهاء قبورًا من الكآبة بألوان الظلمة النتنة في أركان الزنزانة.
-غدًا غدًا! سنبيت هنا الليلة؟… سنبيت هنا الليلة؟… وهنا ينادي الشرطي أين من يسمى مجدي إبراهيم؟
فيقفز مجدي من مكانه، أنا…
-تعال أنت مسيحي؟
-نعم.
-لماذا لم تقل إذن ولماذا تترك لحيتك هكذا؟
-مشاكل الدنيا… مشاكل الدنيا.
-تعال!… أيقن الجميع أن مجدي لن ينعم بنزلهم فأسرع أحدهم بإخراج كارت فيه أرقام تليفونات وقال يا مجدي لو أمكن أن تتصل بأهلي؟… ويقفز آخر وأنا يا مجدي… ويبحث أحمد عن قلمه وقبل أن يجده يلحظ أنه كاد يرحل تحت إلحاح الشرطي فلم يجد إلا الصفحة الأولى من أجندته تحمل بياناته ورقم التليفون فيقطعها ويقفز بها إلى مجدي قبل أن يطبق عليهم باب الزنزانة من جديد.
يمضي مجدي حاملا أرقامًا دون أرقام وآمالاً دون آمال…
وهنا يقول أحدهم: يا ليتني كنت مسيحيًا! يا ليتني كنت مسيحيًا!… ولعل هذه الجملة طردت بعض الصامتين من صمته وكأنما لدغه ثعبان أو عقرب Ø› ليرد والألم يهز نبرات صوته: اتق الله اتق الله ولا تقل هذا…
-أليست هذه هي الحقيقة التي رأيتها بعينيك؟ قل إنك مسيحي فلن تبقى هنا.
فلا يجد مفرًا إلا أن يستعطف صمته ليعود إليه ويغلق عليه بابه كأنه قد أقر بالحجة أو كأنه خان عهدًا لصمته كفارته الإياب. أيقن الجميع أنهم باقون الليلة في هذا القبر الجماعي واتخذ كل منهم مقعدا من الأرض أو مضطجعا وهم بين متماسك ووجل ومحوقل ولاعن وثرثار وصامت زاحموا جميعهم بعض القدماء في هذا القبر من اللصوص ، وقد أقبل بعضهم على الوافدين يتحسس جيوبهم بحثا عن سيجارة أو نقود أو شيء ينتفع به ، وما أن استقر بهم الحال جميعا على الأرض وانتهى التعارف والتساؤل حتى أمضى صاحبنا ليلة هادئة تحت أنغام آلات النفخ الموسيقية العليا والسفلى ، وإن من الموسيقى لما يُشمّ جنبا إلى جنب مع سيمفونية الروائح النتنة المنبعثة من هذا القبر المظلم. ولأول مرة يفهم قول امرئ القيس
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وأي إصباح ينتظره إصباح أمن الدولة وما أدراك ما أمن الدولة. وإنه ليظن لجهله بالأمر أن أمن الدولة أرحم من هذا القبر النتن وهذا الليل الذي يشبه ليل النابغة الذبياني:
كليني لِهَمٍّ يا «أُميمةُ» ناصبِ** وليلٍ أُقاسيهِ.. بطيءِ الكواكب
ويمر الليل البطيء الكواكب وينجلي ويأتي صبح يظن الجميع أنه حقا ليس بأمثل … وما الذي تسأل فيه أو تحقق فيه أمن الدولة ØŸ سؤال يطرحه الجاهل بأمن الدولة ØŒ فيرد بعض من لهم الخبرة في ذلك ØŒ الأسئلة تختلف من شخص إلى آخر ØŒ ووفقا لملف الشخص عندهم ØŒ أو مسجل في قوائمهم ØŒ أما الجدد فالأمر مختلف ØŒ إما أن يسجلوه وإما أن يتركوه… وبعد ساعات من الانتظار تعلو الأصوات في الخارج وتتداخل إلى أن يأتي من يفتح الزنزانة ليبدأ اللقاء الموعود …
– معصوب العينين لا يرى من يسأله ØŒ أنا طالب في جامعة الأزهر وكنت عائدا إلى بيتي ولا أدري لماذا قبضوا علي؟
– من أي جماعة أنتَ؟
– أنا لست مع أي جماعة على الإطلاق ØŒ وهذه اللحية نسيت أن أحلقها مع انشغالي بالامتحانات ØŒ أنا أصلي طبعًا لكني لست ملتحيًا ØŒ يقولها كأنه يعترف بجريمة لا يعرف مدى عقوبتها.
-وأنا أيضًا أصلي، هل تظن أننا لا نصلي؟
-لا عفوًا لم أقصد ذلك!
-وما رأيك في شروط الحاكم وهل ترى أن الخلافة أفضل أم الوضع الحالي؟
-صراحة لا أشغل نفسي بغير الدراسة والحمام.
-نعم… حمام، أي حمام؟
-أنا أعشق الحمام لذلك أقوم بتربيته بنفسي.
– إذن أنت مسئول الاتصالات ØŒ حمام مثل حمام زكي رستم؟
-لا لا لا والله… حمام بلدي جميل.
-يعني أنك شاهدت الفيلم؟
-طبعًا.
-أليس حرامًا؟
-من قال هذا؟
-إذن أنت لا تتبرأ ممن يفعل ذلك؟
-ولم؟
-ولمن يجب أن يكون الولاء يا أحمد؟
-آه نعم فهمت ما تقصد حضرتك من الولاء والبراء فأنا أعرف أحكامهما بحكم دراستي، لكن أؤكد لسيادتك أنني لا شأن لي بكل ما تخشونه فأنا متفوق في دراستي وأملي أن أصبح معيدًا في الجامعة. أسئلة تلي أسئلة لم تخطر ببال صاحبنا يوما من الأيام بدا المحقق عالما بأفكار الجماعات المختلفة وبدت أسئلته مدروسة ومحددة يتخللها بعض الأسئلة التشتيتية … إلى أن قال:
– خلاص …
وهنا يجد أحمد من يسحبه خارج الغرفة ليعيده إلى الزنزانة… يومان وليلة والكل لا يدري ماذا يُفعل به. حتى وصل إلى سمعهم نبأ الإفراج فالكل سوف ينجو من هذا الكرب عدا اثنين احتد الحوار معهما ولا أمل في خروجهما.
ترامى إلى أسماعهم خبر الإفراج قبل الظهيرة ولم يحدث حتى الساعة الحادية عشرة مساءً إذ ينادي الجندي فلان وفلان… تعالوا أحمد المصري تعال…
يخرج أحمد ليرى الطريق مختلفًا أمه وإخوته وأصدقاؤه على الرصيف وسط حشد غريب من البشر يحتضنونه، وأخوه يقول له اشتريت لك أمواس حلاقة من جميع الأنواع. وأمه تحتضنه وتبكي وتقول له منذ أن اتصل بنا صاحبك وأخبرنا ونحن هنا وهذه المرأة المسكينة تبكي ابنها. هل خرج معكم فيسأل المرأة من ابنك؟ فيعلم أنه اللص الذي لم يسلم منه أحد، فيقول إنه ما زال بالداخل لا تقلقي عليه.
لم تتق عيناه الثقيلتان وبدنه المنهك إلى الفراش بل تحسست عيناه الطريق إلى القصاص وما زال ممسكًا بالأمواس التي اشتراها أخوه.
تعال لتأكل شيئًا ØŒ مؤكد أنك لم تذق شيئًا من يومين، لا يجيب أحمد ويمضي في طريقه ليلوم شعرات ذقنه لومًا عنيفًا بالموسى وكأنه يقتص منها عذابًا وإهانة سببها ظهورها على غفلة منه في وجهه… الأكل يا أحمد… فيقول لهم هل أطعمتم الحمام… تعال أنت أولاً لتأكل… كأنه لم يسمعهم ويذهب إلى أحبائه، ليطمئن عليهم على الرغم من الوقت المتأخر من الليل ØŒ ويغيب في عالم آخر عالمه الطائر ولا يفيق إلا على أصوات إخوته وأمه عجل يا أحمد الطعام الطعام…
-أنا أريد أن أنام، لكم أنا متعب!… لكن كُل شيئًا أولاً ثم اذهب واسترح. ولم يدْرِ أحمد هل أكل أولاً أم نام قبل أن يأكل… عشر ساعات ومرأى أحمد يذكر بالموت والبعث “عشر ساعات ملقى في فراشه كأنه فارق الحياة إلا من أنفاس تنفي ذلك… حتى تأتي لحظة البعث من جديد.. يشعر بأنه ما زال في الفراش يفتح عينيه للتأكد من ذلك، نعم أنتَ على حق أنتَ في الفراش أخيرًا في فراشك في غرفتك… الحمد لله… فيطرح عقله على قلبه سؤالاً: كيف يكون بينك وبين حلمك الكبير والزنزانة شعرة؟ فيقول الشعرة بين العبقرية والجنون لا بين الحلم والزنزانة … لكن الحمد لله أنها لم تكن شعرة حقيقية وإلا للبثت في السجن سنين..
يكفي أن تكون بريئًا دون أن يراك الناس بريئًا، ويكفي أن تكون جميلاً في نفسك ولعله الأهم دون أن يراك الناس جميلاً ØŒ ويكفي أن تكون صاحب حق وإن لم تستطع أن تدلل عليه. نعم أنا أحب الخير وعلمي به يكفي وإن كان الناس لا يشقون عن صدري، وأتمنى لو أملك السعادة كلها كي أوزعها على كل البشر… كل البشر ولو جهل البشر ذلك.
أهذا رأيك ØŸ وهذه فلسفتك؟ هل جعلك اهتمامك بالدراسة والعلم ساذجًا إلى هذا الحد ألا تعلم أن هناك ما يسمى بالإرهاب… بلى ولكن ما شأني به؟ … ماذا أفعل؟ تمضي الأيام وما زال عقله ونفسه.. في جدال لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد Ø› مما يضطر قلقه على نتيجة الامتحان بين الحين والآخر.. أن يتدخل بينهما ليوقف هذا الجدال فيستجيبا له حينًا ويتجاهلانه حينًا آخر… ولعل الأيام قد ملت هي الأخرى من هذا الجدال فأرسلت من يحسم قضيته أو يحفظها ألا وهو نتيجة الامتحان نفسها تحملها صرخات زميله هشام.. يا أحمد يا مصري مبارك مبارك يا أحمد يا مصري… أين أحمد المصري؟ ويطرق الباب… فيقفز أحمد من مكانه فيفتح الباب… فيصيح هشام ويحتضنه ويقول أصحاب جيد جدًا نائمون في البيت وأصحاب مقبول يلهثون وراء النتيجة… فيرد أحمد هل ظهرت النتيجة؟ … ألم تسمع صوتي من الطريق؟ صوتي كَلّ من قول مبارك يا أحمد يا مصري!
جيد جدًا؟… نعم والثاني – الحمد لله.
وأنت؟… الحمد لله نظيف هذا العام مقبول بلا مواد.
مبارك لك أيضًا… الحمد لله أبي لن يستطيع أن يسمعني قصائد الهجاء كعادته كل عام.. ويتحول أحمد إلى محقق لا يفتأ هشام يجيب عن سؤال حتى يقذف إليه بالآخر .. من الأول؟ ومن الثالث؟ وكم واحدا حصل على جيد جدًا؟ ومن رسب؟ وهل كان د. فلان في الكلية؟ ومتى ظهرت؟… هل تعلم شيئًا عن موضوع السفر شهرًا إلى ألمانيا؟ وهنا يجيبه هشام… آه… احذر أن تذكر أمام أبي أنك سوف تسافر شهرًا في منحة تفوق إلى ألمانيا، وإلا لسمعت كل قصائد الهجاء العربي.
-سأذهب بنفسي وأسأل عن التفاصيل… ومع أول ضوء للشروق يهرول أحمد إلى تجهيز الماء والطعام وتنظيف المكان للحمام، ويفعله اليوم على عجالة، فلابد أن يطير هو إلى الجامعة كي يسأل عن تفاصيل السفر… فالأوائل سيذهبون شهرا إلى ألمانيا في منحة دراسية ØŒ وكالعادة لا تنتهي الإجراءات إلا بتجهيز قائمة طويلة من المتطلبات وإلا توقف السفر… وعلى شوقه الشديد للسفر إلى ألمانيا كان يحزنه شيء واحد: كيف يترك الحمام؟ وهل يستطيع؟ لكن على أية حال لن أغيب وقتًا طويلا؟ وسأوصي أمي وأهلي جميعًا بالاعتناء بهن حتى أعود… لو كان حملهن معي في الطائرة ممكنًا لفعلت…
وفي اليوم الأول من شهر أغسطس يطير أحمد وزملاؤه (فتى واحد وخمس فتيات) إلى ألمانيا… وقد حلق أحمد لحيته ثلاث مرات في خلال ساعة واحدة قبل السفر وراجع كل كلمات السلام ومرادفاتها والحب والخير باللغة الألمانية.. أنا أحب السلام وأحب الخير كل خير للناس كل الناس، وأحب الحمام… وأكره العنف والإرهاب…
وهاهم الآن في ألمانيا وما أن انتهي اليوم الدراسي الأول يخرج أحمد وزملاؤه إلى الطريق يرون الطريق رائعًا نظيفًا وحركة المرور والناس منظمة وفي غاية الدقة، وبدا الوجود ساحرًا وكان أحمد يتلمس الحوار مع أي أحد يقابله وكيف أن ما تعلمه في الجامعة يصح للحوار في الطريق أم لا؟ يسير أحمد مع زملائه بجسده وعقله شارد فيما يرى يقارن بين كل شيء يراه والشيء نفسه في مصر ولا يشعر إلا بحافلة أنيقة كبيرة تكاد تكون شاغرة الأماكن فالركاب فيها يملئون قرابة نصف الكراسي أو أقل : إنني أريد أن أتعرف على المدينة ØŒ يترك أحمد أصحابه ويسرع بالركوب في الحافلة ويطلق لنفسه العنان في التفكر والتأمل ØŒ كم أن المدينة جميلة ونظيفة لا تقع عينك على سوء أينما ذهبت ØŒ أجِلْ بصرَك حيث شئت لا ترَ إلا بهاء ØŒ وكأن المدينة غابة من الأشجار والورود شُقَّتْ فيها الطرقاتُ الدقيقة واختبأت فيها البيوت ØŒ والهواء بارد منعش والشمس هادئة لا تشعر إلا بشعرها الذهبي ولمسة أناملها الدافئة بين الحين والآخر ØŒ وبينما يُميل أحمد وجنتيه يتحسس شعر الشمس وأناملها إذا برجل ضخم البنية ممتلئ البدن يقوم من مجلسه ويتوجه إلى أحمد وهو على امتلاء جسده يبدو كأنه مصارع قديم قد توقف عن الرياضة واستمرت عاداته في الغذاء كما كانت فملأت بدنه شحوما ونفخت بطنه في غير ضعف. تَذْكَرَتُكَ من فضلك؟ فيرد أحمد وكم ثمن التذكرة؟ ألم تشتر التذكرة؟ سأشتريها منك الآن ØŒ ألست محصل هذه الحافلة؟ لا ØŒ ليس عندنا محصلون ØŒ عندنا ماكينات لشراء التذاكر ØŒ يجب على كل إنسان أن يشتريها قبل أن يصعد إلى الحافلة ØŒ أو يكون معك اشتراك شهري أو نصف سنوي. تبدو علامات الاضطراب على أحمد ويتلعثم ولكني لم أكن أعرف هذا ØŒ أنا جديد في ألمانيا. تقف الحافلة في محطتها ويوجه الرجل أحمد إلى النزول معه فيجد أحمد نفسه بين ثلاثة رجال أقلهم حجما الذي كان يوجه كلامه إليه من البداية ØŒ وسمع كلمة ” راكب أسود ” ØŒ ولم يكن يفهم معناها ØŒ بطاقتك من فضلك؟ نعم هذه بطاقتي ØŒ ولكن ما الأمر؟ سوف تدفع غرامة أربعين يورو في خلال المدة المحددة لك في هذه الاستمارة ØŒ وإن تأخرت سيحول الأمر إلى المحكمة ØŒ وكلما تأخرت ازدادت الغرامة. يسجل الرجال بيانات أحمد ويعطونه استمارة الغرامة ØŒ ويدلونه على مكان الدفع ثم يتركونه في صدمته متألما من أنه متهم بعدم الأمانة لا بجهله بالنظام ØŒ بل متهم بالسرقة والغش والكذب على أنه راكب أسود.
يعود أحمد إلى أصحابه ويخبرهم بما حدث بلهجة المصدوم الخجل ØŒ ويقابلونه بالضحك والسخرية: لو كنت معنا لما حدث لك مكروه ألا تعلم أن النظام هنا غيره في مصر وأن كل شيء بالماكينات ØŒ ويمكننا أن نستخرج اشتراكا عاما للتنقل لمدة الشهر كاملا في حدود مساحة محددة يغنينا عن هذا الموقف ØŒ ولا ندفع بعده شيئا إلا إذا سافرنا بعيدا عن تلك المساحة المحددة ” تعيش وتأخذ غيرها ” ØŒ ” يا بني لا تذهب بعيدا عن والديك!”
مر أسبوعان وأحمد وزملاؤه يخرجون وفق برنامج الكورس في رحلاتهم في مدينة هايدلبرج ØŒ ومعهم اشتراك شهري للتنقل في حدود مساحة عشرين كيلو مترا ØŒ ثم يخرج يتجول هو في المدينة… يتصل بأهله بالتليفون ويتعمد أخوه أن يقف وسط الحمام وهو يكلمه كي يسمعه أصوات الأسرة كلها.
يبدأ يوم جديد بحلاقة جديدة. اليوم سنذهب إلى مدينة مانهايم لا تبعد كثيرًا عن هايدلبرج _وهو كذلك_ بالقطار من ثماني … إلى عشر دقائق وبالمترو من أربعين إلى خمس وأربعين دقيقة. فلنأخذ القطار إذن.. ينزل أحمد في مدينة مانهايم ويتجول في أرجائها.. مدينة مزدحمة بعض الشيء فيجد كثيرًا من الأتراك والعرب كذلك.
ينظر أحمد إلى مرأى النافورة البديع والحدائق الغناء _يا لروعة ما يرى إنه يرى حمامًا كثيًرا على الأرض أمعقول ما أرى.. حمام.. آه… يهرول أحمد إليهن زاهدًا فيما سيأتي ناسيًا ما قد مضى يتلمس فيهن الفرق بين كل حمامة وحماماته يخرج ما احتجزه لنفسه للغداء ويقطع منه للحمام ولا يفيق إلا على أصوات زملائه هيا… يجب أن نعود… يضطر أحمد أن يفارقهن فراق المضطر لكنه يُسِرُّ وصالَ الحبيب…
في اليوم التالي يشتري لهن طعامًا ويذهب إليهن وحده كي يخلو كل حبيب وحبيبه يقف في وسطهم يبذر لهن الذرة الصفراء ويحسبه كليل البصر حمامة كبيرة تطعم صغارها. الهواء يلهو والشمس تبتسم وقلب أحمد يتراقص مع أجنحة الحمام ØŒ يقترب منه اثنان: رجل وامرأة رشيقا البدن يرتديان زيا متماثلا ØŒ لم يشعر بهما قلب أحمد العازف على أوتار الشمس العزيزة في سماء ألمانيا… عفوًا.. من فضلك.. ينتبه أحمد إلى أن الجملة موجهة إليه فيلتفت إلى الرجل ويخطر بباله لأول وهلة أنهما يريدان بعض الذرة ليلتقطا بعض الصور مع الحمام… ويرد على الرجل ويسأله هل تكلمني؟ … نعم… أنا أعمل في مدينة مانهايم وهذه زميلتي…
وهنا دون أن يشعر أحمد ترتفع يده في سرعة عجيبة إلى ذقنه ويتحسس وجهه هل نسى اليوم أيضًا أن يحلق ذقنه؟ أم لا؟ لا لم ينس أن يحلقها إذن ما الأمر… هل هناك تذكرة واجبة لإطعام الحمام غفل عن دفعها في الماكينة هذه المرة كذلك؟. أنا أطعم الحمام فحسب…
-من أجل ذلك نحن نكلمك.. أنت ألقيت طعامًا بالأمس لهذا الحمام ثم غادرت المكان.
نعم لأن أصحابي نادوني.
-لقد صورتك الكاميرا بالفعل وأنت اليوم تلقي لهن الحب أيضًا…
-نعم فأنا أعشق الحمام وأربيه في بيتي فوق السطح..
-هذا عندكم… أما هنا فممنوع؟
-ما الممنوع؟
-أنت تطعم هذا الحمام هذا ممنوع وعليك أن تدفع الغرامة وإن لم تدفع الغرامة فسنحول الأمر إلى القضاء..
-قضاء؟ محكمة؟
-نعم… ألا تعلم أن المدينة تحرم ما تقوم أنت به الآن؟ لأن هذه الطيور تلوث المباني بفضلاتها.
-لا.. لا أعلم؟ وماذا في ذلك؟ أنا أرى الأمر غريبًا جدًا؟
-لكنه القانون هنا، والآن هل تدفع أم لا؟
-وكم الغرامة إذن؟…
-… يورو؟ في المرة الأولى وفي الثانية تتصاعد الغرامة…
-لكن ليس معي هذا المبلغ الآن!
-إذن أعطنا بياناتك الشخصية وعليك تحويل المبلغ إلى المدينة على هذا الحساب… ويخرج الرجل استمارات من حقيبته ويسأله عن اسمه وبياناته …
– هذه أوراقي الشخصية فأنا طالب في كورس اللغة الألمانية المقام في هايدلبرج…
-لا بأس…
-يمضي الرجل والمرأة إلى سبيلهما ويتركان الاستمارة التي يجب أن يدفع بها أحمد الغرامة، بعدما سجلا كل بياناته الشخصية وحررا محضرًا بالجريمة ولم ينسيا أن يُذَكِّرَا أحمد مرة أخرى.. ولا تفعل هذا الأمر مرة أخرى فحذار…
-وتركا أحمد والهواء يعصف والشمس تنتحب خلف السحب السوداء مهيضًا قلبه ، لم يجد قلبه الحائر سوى أقصوصة لحن كئيب يعزفها ناي الدهشة والشرود.
إطعام الحمام جريمة؟ يُسائل عقله… يومئ إلى نفسه مستفهمًا فلا يجد ردًا منهما يتخبط عقله في أركان مظلمة وترسم نفسه يدين باطنهما إلى السماء حائرين بلا إجابة… هل يكفي أن تكون جميلاً دون أن يراك الناس جميلاً ØŒ وهل يكفي أن تكون بريئًا دون أن يشهدوا ببراءتك ØŒ وهل يصح أن تسلك سبيلاً دون خريطة للطريق ØŒ وكيف تعرج ملائكة قلبك بك إلى السماء وتبقى حائرا في دروب الغابة.
في صباح اليوم التالي يعزم أحمد على الذهاب إلى الجامعة، لكنه يلحظ أن جاره دائمًا يلبس “السروال القصير” ولا يلبس مثله السروال الطويل ØŒ فيتردد أحمد في الخروج بسرواله فقد يكون وراء ذلك غرامة أخرى، فيسرع أحمد إلى جاره متسائلاً هل أستطيع أن أرتدي هذه الثياب أم لابد أن أرتدي مثلك ØŒ أي بطريقة أخرى للسؤال هل عندكم غرامة على ارتداء هذا السروال؟ وما يلبث الألماني أن يفهم السؤال حتى يشير إلى أحمد بيده متجاهلاً ومشيرًا إليه بعلامة الجنون، ولا يجيب ØŒ ويترك أحمد في دهشته وتساؤلاته…
لا يكفي أن تكون جميلاً حتى يراك الناس جميلاً، ولا أن تكون بريئًا حتى يشهدوا ببراءتك، لا تسلك طريقًا بلا تخطيط ØŒ ملائكة قلبك يعرجون بك إلى السماء لكن طريق الغابة لا يحتاج إلى براق …

Related posts

Leave a Comment