قديما فَرَّ بعض آل البيت إلى بلاد العجم من بلاد العرب، وذابوا في الناس؛ فاستعجموا على رغم نسبهم العربي الشريف! أخبرني أخي الحبيب الدكتور تولوس مصطفى (رئيس اتحاد معلمي اللغة العربية بإندونيسيا)، أن إندونيسيا (بلده)، حلَّته طوائف أجنبية مختلفة، ولكن لم يَذُبْ منها في الإندونيسيين غيرُ العرب، وشهد على صدقه عندئذ عَفْوًا، شابٌّ كان معه، مصريٌّ فَذٌّ، متزوج من إندونيسية وله منها ولد، كتبتُ عنه فيما بعد مقالي “آية الله علي بن عبد المنعم”:
https://mogasaqr.com/…/%d8%a2%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84…/
فهؤلاء العرب الآن إندونيسيون، ولو كانوا من آل بيت النبي العربي أفصح العرب طُرًّا، الذي سَمَح له البيان الأبيّ، صلى الله عليه، وسلم!
نعم؛ فإن اللغة تستولي على صاحبها من قبل أن يولد، ثم تشب معه عن الطوق، لا تدعه لا في يقظته ولا في نومه، بل ربما انكشفت في هذا أوضح مما تنكشف في تلك؛ ولأمر ما يؤثر بعض الناس الانفراد بنومه!
ولقد درس عليَّ العربية من لا يتكلمها، ثم زارني في مكتبي، فدخل علينا عندئذ أحد إخوانه، وأقبل كلٌّ منهما على الآخر يكلمه بلغتهما؛ فغضبت أن انفردا عني معي بما يشبه الإسرار -وهو عندنا من سوء الأدب- فاعتذر إليَّ تلميذي بأنهما إنما فعلا ذلك عفوا، ولو لم يفعلا لخَشِيا على أُخُوَّتِهما!
وقد بلغ من وعي بعض تلامذتنا ما ينبغي أن تكون عليه منزلة اللغة من صاحبها، أن أطلق حَمْلَةً تثقيفية، تستبدل بالشتائم العجمية شتائم عربية فصحى؛ فلما علقت على عمله أنني أنزه العربية الفصحى عن ذلك، وأتركه للعامية، رَفْعًا وخَفْضًا- خالفني إلى موافقته من لم يخالفني قَطّ، تمكينا للعربية الفصحى من أحوال العربي المعاصر المستعجم؛ فذكَّرني قول أحد كبار الأطباء المصريين ساخطا على زملائه: أنا أمرض بالعربية فكيف أعالج بالإنجليزية!
ألا إن العربي إنما يحيا في لغته العربية، قبل أن ينطلق في الهواء على الأرض تحت السماء؛ فإذا استقامت لغته على العروبة استقامت حياته، وإذا اعوجت اعوجت! وهل العربي إلا كلمة! فهل تحيا هذه الكلمة إلا في تعبير، وهذا التعبير إلا في جملة، وهذه الجملة إلا في فقرة، وهذه الفقرة إلا في فصل، وهذا الفصل إلا في كتاب، وهذا الكتاب إلا في جَمْهرة!
(25) المشاهدات