إذا ذكرت عبارة «منهج التذوق» الآن ÙÙŠ مجلس نقاد يستخدمون مناهج النقد الØديثة كالبنيوية والتÙكيكية وما إليهما، قوبلت العبارة بالسخرية وألØÙ‚ منهج التذوق بالمنهج التأثري وما إليه من مناهج وطرائق ÙÙŠ النقد هي ÙÙŠ عÙر٠هؤلاء النقاد من المناهج البائدة أو المهجورة. ولكن إذا كان الذي ÙŠÙعتدÙÙ‘ به ÙÙŠ المنهج هو أن يكون أداة Ù…Ùيدة ÙÙŠ يد الناقد أو الباØØ«ØŒ قادرة على أن تستجلي جوانب غامضة ÙÙŠ نص من النصوص، أو ÙÙŠ شاعر من الشعراء، أو ÙÙŠ عصر أدبي ما من عصور الأدب، Ùما المانع من إعمال منهج التذوق إذا أثبت جدواه ÙˆÙاعليته؟ وما المانع من إهمال المناهج النقدية المستØدثة إذا ثبت عجزها وتقصيرها أمام منهج من مناهج النقد التقليدية؟
http://www.alriyadh.com/856770
يتخذ هذان السؤالان مشروعيتهما من عجز ظاهر لهذه المناهج المستØدثة ÙÙŠ التعامل مع تاريخ الأدب العربي القديم والØديث، ومن عدم قدرتها على الخروج بنتائج ذات شأن ÙÙŠ تقويم هذا التاريخ وتبيان إيجابياته وسلبياته. Ùقليلة أو نادرة تلك الدراسات الجادة التي توسلت هذه المناهج المستØدثة وقدمت للØركة الأدبية العربية المعاصرة خدمات Øقيقية على صعيد إضاءة نصوص أو عصور. وإلى اليوم لا تزال الدراسات التي كتبها جيل الرواد كطه Øسين والعقاد وشوقي ضي٠هي الدراسات التي ÙŠÙركن إليها قبل سواها، وإليها يعود الباØثون والدارسون ÙÙŠ الجامعات وغير الجامعات، وإذا ما توÙرت بعض الدراسات التي يستخدم أصØابها بعض مناهج النقد الØديث Øول هذا الجانب أو ذاك من تاريخنا الأدبي، Ùإن هذه الدراسات كثيراً ما تنقصها المتانة أو الإØاطة أو عدم القدرة على الإبØار ÙÙŠ جوانب التراث العربي، وكأنها نتاج بيئة وظرو٠ومراØÙ„ تاريخية تختل٠عن تلك التي عندنا.
وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص وقدمنا نموذجاً واØداً لما قدمه منهج التذوق الذي اعتمده عدد من الباØثين العرب ÙÙŠ النص٠الأول من القرن العشرين، على وجه الخصوص، تبين لنا أن هذا المنهج لم يكن بدائياً أو متخلÙاً كما يزعم البعض، ذلك أنه قدم كثيرا ÙÙŠ الماضي، وبإمكانه أن يغطي كثيرا اليوم أيضاً، خاصة «إذا كان المتذوق قادراً على استبطان ما يعرض له من نصوص أو غير نصوص، ومتمتعاً أصلاً بكÙاءة Ùذة، علمية وذاتية معاً. Ùإذا Øصل كل ذلك، أثبت منهج التذوق قدرته على مناÙسة مناهج النقد المستØدثة التي كثيراً ما زعم متوسلوها أن قدرتها على الكش٠والاضاءة قدرة عجائبية.
بمنهج التذوق من دون سواه Øقق باØØ« مصري كان دون الثلاثينات من عمره، اسمه Ù…Øمود Ù…Øمد شاكر، كشÙاً غير مسبوق ÙÙŠ دراسات المتنبي Ùقد نشر عام 1936ØŒ ÙˆÙÙŠ عدد كامل من مجلة «المقتطÙ» بØثاً عن المتنبي اعتمد Ùيه منهج التذوق، قال Ùيه ان المتنبي ليس ابن عيدان السقاء ÙÙŠ الكوÙØ©ØŒ وإنما هو علوي النسب، وهو قول لم يسبقه إليه Ø£Øد من القدماء ولا المØدثين، ولا جاء به خبر يدل عليه، أو يعين على اÙتراض هذا الÙرض من قريب أو بعيد. Ùكي٠أعاد هذا الباØØ« تركيب شخصية أبي الطيب تركيباً جديداً بØيث بات Ùهم شعر المتنبي على أساس ما اهتدى إليه، هو الÙهم الذي لا يمكن للباØØ« ÙÙŠ أمره أن يعر٠ماهيته وسر شخصية صاØبه إلا بالعودة إليه.
يقول Ù…Øمود Ù…Øمد شاكر إنه من خلال تذوقه شعر أبي الطيب، ÙÙŠ القراءة الأولى والثانية والثالثة، استرعى انتباهه أمر غريب جداً لم يجد له تÙسيراً قط ÙÙŠ أخبار أبي الطيب. ÙŠØ´Ø±Ø Ø´Ø§ÙƒØ± هذا الأمر، وهو متعلق بالكوÙØ© وبمدرسة للاشرا٠اختل٠إليها المتنبي ÙÙŠ صباه Øيث درس Ùيها مع أولاد الأشراÙ.
يقول شاكر: «Ùساورتني الريب والتمست٠تÙسيراً لهذا كله، ومضيت استقصي وأÙلي، وأتذوق الأخبار، وأتذوّق الشعر مرة بعد مرة لعلي أجد شيئاً يهديني إلى علاقة هذا الكوÙÙŠ الشاعر بالعلويين الذين كانت ديارهم ÙÙŠ الكوÙØ© مسقط رأسه ÙˆÙيها منشؤه إلى أن جاوز السابعة عشرة. وبعد تردد طويل ÙˆØيرة، بين دلالة تذوق الأخبار ودلالة تذوق الشعر، لم أجد مناصاً من أن Ø£Ùرض Ùرضاً يزول به هذا الغموض الذي يكتن٠Øياة هذا الشاعر ويرÙع اللثام عن مكنون شعره الذي دلني عليه التذوق. وأخذت هذا الÙرض وعرضت عليه شعر أبي الطيب كله متذوقاً متأنياً، Ùلان لي عصيÙّه واستقام معوجÙّه، وأسÙر كل ما كان عليه نقاب ÙˆØجاب، وتØرك كل ما تذوقته من شعره، وتØركت معه أخباره، Ùعندئذ بلغت Øد القطع بأن أبا الطيب علوي النسب، Ùرضاً يشبه الØقيقة. والÙضل ÙÙŠ ذلك كله لخبر الأصÙهاني الذي ذكر Ùيه «أولاد أشرا٠الكوÙة». وقد قام «عمود الصورة» كلها على هذا الذي ادعيته وليس ÙÙŠ يدي شيء غير Ù„Ùظ الأصÙهاني، ثم دلالات شعر أبي الطيب. وكذلك أعملت هذا الغرض الجريء الذي لا سابق له عند Ø£Øد ممن كتب عن أبي الطيب وجعلته Ù…Øور Øياته كلها إلى أن Ù‚Ùتل. Ùكنت أول من شك ÙÙŠ نسب أبي الطيب الذي رواه الرواة. ولكني لم أق٠عند الشك المجرد، كما ذهب إليه من قلدني (يقصد طه Øسين)ØŒ بل أبنت عن علّة الشك، لأثبت مكانه Øقيقة أخرى دلني عليها شعره ومواقÙÙ‡ ÙÙŠ Øياته كلها، ما كان له ارتباط وثيق بعلّة الشك».
توصل Ù…Øمود Ù…Øمد شاكر إلى هذا الكش٠الÙائق الأهمية ÙÙŠ دراسة أعظم شاعر عربي ÙÙŠ التاريخ بالمنهج الذي انتهجه ÙÙŠ قراءة الشعر وتذوقه وجعله مهيمناً على الأخبار، لقد كان منهجه، كما نرى اليوم، منهجاً مستقيماً لا ÙÙŠ دراسة الشعر ÙˆØسب، بل ÙÙŠ نقد الأخبار أيضاً وإدراك دلالتها على Ùساد نية رواتها أو سلامة هذه النية، كما يراه القارئ ÙÙŠ كتاب «المتنبي» لمØمود شاكر.
على أن Ù…Øمود شاكر، بإعماله منهج التذوق هذا، «اصطاد» أموراً أخرى ÙÙŠ غاية الأهمية تتصل بسيرة المتنبي منها أن المرأة التي يتغزل بها المتنبي ÙÙŠ شعره هي خولة أخت سي٠الدولة، وليس أي امرأة سواها. صØÙŠØ Ø£Ù† كثيرين قبله Ùرضوا مثل هذا الغرض، ولكن Ø£Øداً منهم لم يؤصله على النØÙˆ الذي أصله شاكر ÙÙŠ كتابه وكان مما استند إليه هذه الأبيات التي ÙŠÙ„ÙˆØ Ø·ÙŠÙ Ø®ÙˆÙ„Ø© ÙÙŠ ثناياها، وليس طي٠أي امرأة أخرى:
رØلت٠Ùكم باك بأجÙان شادنÙ
عليّ، وكم باك بأجÙان ضيغم
ما ربة القرط Ø§Ù„Ù…Ù„ÙŠØ Ù…ÙƒØ§Ù†Ù‡
بأجزع من رب الØسام المصمم
Ùلو كان ما بي من Øبيب Ù…Ùقنّع
عذرتÙØŒ ولكن من Øبيب معمّم
رمى، واتقى رميي، ومن دون ما اتقى
هوى كاسر ÙƒÙÙŠØŒ وقوسي، وأسهمي!
وكذلك هذا البيت:
Ùراق، ومن Ùارقت غير مذمم
وأم، ومن يممت خير ميمم
لقد Ø£Ùضى منهج التذوق الذي استخدمه شاكر إلى كش٠الØجب عما طمره غبار السنين. من ذلك إضاÙØ© إلى ما تقدم رÙض «نبوة» المتنبي رÙضاً باتاً. Ùالمتنبي، كما انتهى إلى ذلك شاكر، لم يدع النبوة كما زعموا. بل اعتبر أن هذه النبوة هي مما اÙتعل اÙتعالاً وأقØÙ… ÙÙŠ خلال الأخبار التي ذكر Ùيها أنه أدعى «العلوية» إقØاماً خبيثاً. ومن أجلّ ما توصل إليه شاكر أن المتنبي تØول من «علوي مطالب بنسبه» إلى «عربي ثائر لأمته». وكل ذلك من خلال منهج التذوق الذي اعتمده.
تجدر الاشارة إلى دراسة Ù…Øمود شاكر هذه عن المتنبي، ÙˆÙيها كل الÙØªÙˆØ Ø§Ù„ØªÙŠ أشرنا إليها، لا تزال دراسة جديدة إلى اليوم. Ùعلى الرغم من كل ما تبعها من دراسات عن المتنبي، لم تÙنقض نتائجها أو يأتي سواه من الباØثين بما يتجاوزها. بل انه يتعذر Ùهم شعر المتنبي، سواء ÙÙŠ الغزل أو ÙÙŠ سواه، كما يتعذر Ùهم شخصيته، إن لم يوضع Ùرض «علويته»، وكذلك Ùرض «خولة» ÙÙŠ الاعتبار. Ùالمتنبي لم يكن ليقول ما قاله ÙÙŠ شعره عن Ù†Ùسه لو كان بالÙعل «ابن سقّاء» يبيع الماء ÙÙŠ الكوÙØ©ØŒ ولم يكن ليقول هذا الغزل الراقي الرÙيع المقام لو كانت المرأة التي يقول Ùيها غزله مجرد بدوية التقى بها ÙÙŠ مضارب الأعراب، أو مجرد امرأة كباقي النساء.
ووضع كل ذلك ÙÙŠ الاعتبار أمر ييسر Ùهم شعر المتنبي ويزيل غموضاً داكناً يل٠سيرته.
كان المتنبي مطوياً على سر Ø£Ùلقي الغموض Ùيه من أول تاريخه (أي علويته) وهو سر Ù†Ùسه، وسر شعره، وسر قوته. وبهذا السر كان المتنبي كالملك المغصوب الذي يرى التاج والسي٠ينتظران رأسه جميعاً، Ùهو يتقي السي٠بالØذر والتلÙ٠والغموض، ويطلب التاج بالكتمان والØيلة والأمل.
ولا شك أن Ù…Øمود شاكر قد Ø£Øسن إلى هذا الشاعر العظيم عندما أماط اللثام عن أصله ÙˆÙصله، مستعيناً بأداة منهجية بسيطة لم يكن يملك ÙÙŠ ذلك الزمن سواها، ولكنها كما نرى أداة أعطت لدارسي المتنبي، ولتاريخ الأدب العربي، كتاباً استثنائياً ÙÙŠ جودته لم تÙعط مثله دراسات النقاد المØدثين!