نديم النحويين


طَمَحْتُ إلى تطوير واقع تعليم علم النحو، تَحَقُّقًا بحقيقة وجود النحو في الكلام العربي، وإيمانا بأن علم المعاني من علم النحو، وسعيا إلى مستقبل علم النحو، وحرصا على تأليف قلوب طلاب علم النحو؛ فَتَخَيَّلْتُ مجلسًا من مجالس العلماء، يجتمع فيه ثلاثة تلامذة على شيخهم: أحدهم (أَنَس) واقف عند نص كلام النحويين القدماء، والثالث (بَرَاء) مشغول عن ذلك بمنازعه الطريفة، والثاني (أَيْمَن) وسيط بين الأول والثالث، فأما شيخهم (أبو مِذْوَد) فمَجمع المشارب[1].

افْتَحْ، وَاقْرَأْ، وَنَزِّلْ!

نديم-النحويين

ثم أدرت بينهم الحوار في ثمانية مجالس على ثماني مسائل: أولاها اشْتِغال الْعامِلِ عَنِ الْمَعْمولِ، والثانية تَعَدّي الْفِعْلِ وَلُزومه، والثالثة التَّنازُع في الْعَمَلِ، والرابعة الْمَفْعول الْمُطْلَقِ، والخامسة الْمَفْعول لَهُ، والسادسة الْمَفْعول فيهِ (الظَّرْف)، والسابعة الْمَفْعول مَعَهُ، والثامنة الِاسْتِثْناء- بحيث يبدأ الحوارَ أولُ التلامذة (أَنَس) بتلاوة نص نحوي قديم وكأنه قبس من نور الذكر الحكيم؛ فيعالج الثاني (أَيْمَن) التأتي به إلى الثالث (بَراء) المشغول بما يتداوله معاصروه مِنْ حوله، حتى إذا ما فرغوا وظنوا أنهم أحسنوا، استدرك عليهم شيخهم (أبو مِذْوَد) بتنبيههم على ما لم يتنبهوا إليه، من تنزيل مسائل المعاني على مسائل النحو[2].

وقد رأيت في ذلك وجها من المنادمة (المجالسة على الشراب)، ولكن على الفن والعلم العربيين، ولم تكن المنادمة العربية القديمة تخلو من مسائل الفن والعلم! ومن أدب المنادمة ألا يخدع نَديمٌ عن مَآلها (عاقبتها) نَديمًا؛ ومن ثم أَتَعَهَّدُ لنُدَمائي (تلامذتي) بألا يخرج اختبارهم في مادة مجالس المنادمة، عن هذه الثلاثة الأسئلة:

  1. سؤال في جداول الشرح، بدرجتين.
  2. سؤال في استدراكات الشيخ، بأربع درجات.
  3. سؤال في نص تمرين الخاتمة، بدرجة واحدة.

لتتمَّ الدرجاتُ سَبْعًا (ثلث درجات الاختبار الكامل تقريبا) -وإن تَغَيَّرَتْ لم يَتَغَيَّرْ مَنْهَجُها ولا نِسَبُها- على مِثْل ما جَرَى هذا الاختبارُ القديم:

قالَ الْحَقُّ -سُبْحانَه، وَتَعالى!-: “إِنّا كُلَّ (كُلُّ) شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ”؛ فما فَرْقُ ما بَيْنَ إِعْرابَيِ الْقِراءَتَيْنِ؟2
وَقالَ بَعْضُ الشُّعَراءِ: “قَدْ طَلَبْنا فَلَمْ نَجِدْ لَكَ في السُّؤْدُدِ وَالْمَجْدِ وَالْمَكارِمِ مِثْلا”، “وَلَمْ أَمْدَحْ لِأُرْضِيَه بِشِعْري لَئيمًا أَنْ يَكونَ أَصابَ مالا”؛ فَما الْمُسْتَدْرَكُ بِالْبَيْتَيْنِ؟4
وَقالَ بَعْضُ الْكُتّابِ -وكان غير من هنا-: “أَهُمْ يُساوِمونَ في بَهيمَةٍ لا تَعْقِلُ، وَلَيْسَ لَها مِنْ أَمْرِها شَيْءٌ إِلّا أَنَّها بِضاعَةٌ مِنْ مَطامِعِ صاحِبِها، يُغْليها عَلى مَطامِعِ النّاسِ؟”؛ فَما حُكْمُ الْمُسْتَثْنى ؟1

وكتب محمد جمال صقر

بروضة مصر العتيقة

في 8 من شوال 1432ه=6 من سبتمبر 2011م

mogasaqr@yahoo.com


[1] وكان هذا مبتدأ ما تخيلت:

يا رَوْضَةَ النّيلِ لا مَسَّتْكِ بائِقَةٌ وَلا عَدَتْكِ سَـماءٌ ذاتُ أَغْداقِ

وَلا بَرِحْتِ مِنَ الْأَوْراقِ في حُلَلٍ مِنْ سُنْدُسٍ عَبْقَريِّ الْوَشْيِ بَرّاقِ

يا حَبَّذا نَسَـمٌ مِنْ جَوِّها عَبِقٌ يَسْـري عَلى جَدْوَلٍ بِالْماءِ دَفّاقِ

بَلْ حَبَّذا دَوْحَةٌ تَدْعو الْهَديلَ بِها عِنْدَ الصَّـباحِ قَماريٌّ بِأَطْواقِ

مَرْعى جِيادي وَمَأْوى جيرَتي وَحِمى قَوْمي وَمَنْبِتُ آدابي وَأَعْراقي

في قَلْبِ مَدارِ النيل الجليل تُزْهِرُ رَوْضَةُ مِصْرَ العَتيقةِ مُبارَكةً بدعوة محمود سامي البارودي رَبِّ السَّيْفِ والقَلَمِ السابقة بظهر غَيْبِهِ عنها في سَرَنْديبَ مَنْفيًّا مع أحمد عرابي -رضي الله عنهما!- ثورةً لكرامتها. ثم في قَلْبِ رَوْضَةِ مِصْرَ الْعَتيقَةِ يَدورُ مَيْدانُ المَماليكِ البَحْريَّةِ قريبا من مِقْياس النيل الذي كانت مَسيرةُ سلطانهم في دَوْلَتِهِمْ من القلعة إليه وفاءً بوفاءٍ، مَحْفِلًا حافِلًا بَهيجًا مُبْهِجًا. ثم على قلب مَيْدان المماليك البَحْرية تقوم أَشْجارٌ مُلْتَفَّةٌ مُسَوَّرَةٌ مُبَوَّبَةٌ مُغْلَقَةٌ مُثيرةٌ نَهارًا مُخيفَةٌ لَيْلًا، كأنها تاجُ المماليك الخُرافيُّ يَنْتَظِرُ دَوْلَتَهُمْ! ثم من قلب تاجِ المماليك تَتَنادى زَمْزَماتٌ فَيْتوريَّةٌ تَتَقاذَفُها أَرْجاؤه:

في حَضْـ… رَةِ مَنْ… أَهْوى… عَبِثَتْ… بي الْأَشْـ… واقْ

حَدَّقْـ… تُ بِلا… رَأْسٍ… وَرَقَصْـ… تُ بِلا… ساقْ

وَزَحَمْـ… تُ بِرا… ياتي… وَطُبو… لي الْآ… فاقْ

عِشْقي… يُفْني… عِشْقي… وَفَنا… ئي اسْتِغْـ… راقْ

مَمْلو… كُكَ لـ… كنّي… سُلْطا… نُ الْعُشـ… شاقْ

فَيَتَفَجَّرُ من تحته يَنْبوعٌ مُثَلَّثُ العيون عن ثلاثة أَشْباحٍسُمْرٍ مُؤْتَلفينَ مُخْتَلفينَ: أَمّا أَنَسٌ فشابٌّ جَليدٌ مُتَزَمِّلٌ بالأبيض الناصع، وأما أَيْمَن فكَهْلٌ بَدينٌ مُتَلَفِّعٌ بالأخضر الداكن، وأما بَراء فشَيْخٌ سَمينٌ مُتَلَفِّفٌ بالأسود الدامس، قَدْ وَلَّوْا وُجوهَهُمْ شَطْرَ مُنْحَدَرِ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ بِصَدًى حَسّانيٍّ واحِدٍ:

وَلي صا… حِبٌ مِنْ… بَني الشَّيْـ… صَبانِ… فَطَوْرًا… أَقولُ… وَطَوْرًا… هُوَهْ

فإذا تَيّارٌ مَوّارٌ يَتَدَفَّقُ مِنْ صَبَبٍ شَطْرَهُمْ ثم يتفجر عن شَبَحٍ مُنْكَرٍ بينهم مَعْروفٍ عندهم، بصَوتٍ غَريبٍ واحِدٍ:

أَتَيْتُ الْـ… مَدى عَنْ… قَدَرْ

رَكِبْتُ… رُؤوسَ الْـ… بَطَرْ

وَصَلْتُ… شُعاعَ الْـ… خَطَرْ

بِطاعَـ… ةِ رَأْيِ الْـ… حَذَرْ

أَنا دَ… رَكُ الطَّيْـ… شِ شَحْبَلْ

سَيَنْفَـ… تِحُ الْبا… بُ يَوْمًا… لِأَدْخُلْ

فصاحوا: مَوْلانا أبو مِذْوَدٍ شَحْبَلُ بْنُ مِسْحَلِ بْنِ أَبي مُرَّةَ الشَّيْصَبانيّ، سِلْمُ كُلِّ فَنّانٍ إِنْسانيّ، حَرْبُ كُلِّ عالِمٍ حَيَوانيّ!

أبو مذود: مَرْحى بِمَنْ طَرِبوا لِلْفَنِّ فَاقْتَرَبوا      مَرْحى وَلَوْ نَصِبوا لِلْعِلْمِ لَاغْتَرَبوا 

مواليه: يا بَهْجَتَنا بِكَ حاضِرًا فينا غائِبًا عَنّا، وشَوْقَنا إِلَيْكَ غائِبًا عَنّا حاضِرًا فينا!

أبو مذود: يا بَهْجَتي جَميعًا بِكُمْ شَمْلي.

مواليه: أحسن الله إليك! إنما نحن مَواليكَ وخِرّيجوكَ!

أبو مذود: أحسن الله إليكم! بل أنتم مَكْمَلي ومَحْياي ومَخْلَدي.

مواليه: عافاكَ اللهُ! أَبِفَنائِنا تَخْلُد، أَمْ بِمَواتِنا تَحْيا، أَمْ بِنَقْصِنا تَكْمُلُ!

أبو مذود: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلّا بِاللهِ. إِنَّ وَراءَ الْأَكَمَةِ ما وَراءَها!

مواليه: وَراؤُها كَأَمامِها:

فَغَدَتْ كِلا الْفَرْجَيْنِ تَحْسَبُ أَنَّهُ مَوْلى الْمَخافَةِ خَلْفُها وَأَمامُها

أبو مذود: تِلْكُمْ -يا مَكْمَلي ومَحْيايَ ومَخْلَدي- بَقَرَةُ سيدنا لَبيدٍ -رضي الله عنه!- أَدْرَكها الكَلّابُ وكِلابُهُ!

مواليه: فَنَجّاها منهما؛ فَمَنْ لِأَهْوالٍ يُخَفِّفُ بَعْضُها بَعْضًا!

أبو مذود: “اللهُ يُنَجّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ”؛ فَمَهْ؟

مواليه: طلبنا حقيقة أنفسنا وحقيقة مَن حَوْلَنا وما حَوْلَنا.

أبو مذود: عَزَّتْ أَهْوالًا وجَلَّتْ!

مواليه: فَتَنازَعَتْنا الحقائِقُ!

أبو مذود: كيف -يا مساكين- وما ثَمَّ إلا حقيقةٌ واحدة عليها تدور الصور:

وَفي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ الْواحِدُ 

لَكَأَنَّكُمْ ما طلبتم إلا الأوهام؛ فهاتوا ما عندكم!

مواليه: أولِعْنا بالكلام؛ فَنَحْنُ نَتَأَمَّلُه.

أبو مذود: أيّ كَلامٍ؟

مواليه: كلام الحق -سبحانه، وتعالى!- ثم كلام رسوله -صلى الله عليه، وسلم!- ثم كلام أوليائهما -رضي الله عنهم!- ثم كلامنا وكلام سائر الناس -عفا الله عنا!- في كل زمان ومكان، الذي نقف عليه أو يقف علينا.

أبو مذود: عَزَّ كَلامًا، وَجَلَّ! وأيُّ تَأَمُّلٍ؟

مواليه: مُذاكرةُ مسائلَ منه نحوية مهمة.

أبو مذود: مُذَاْكَرَةُ الرِّجَاْلِ تَلْقِيْحٌ لِأَلْبَاْبِهَاْ!

[2] فمن آثر البيان القديم فَلْيَلْزَمْ تلاوة أنس، ومن آثر البيان الحديث فليلزم استطراد براء، ومن آثر البيان الوسيط فليلزم شرح أيمن، ومن اهتم للفقه الدقيق فليلزم استدراك أبي مذود، ومن اسْتَرْوَحَ إلى الطرب الأصيل فليلزم غناء أنس! ولكن ينبغي ألا ينخدع أَيٌّ منهم عن نصيحة الدهر: ­­ “تبدو لي كتب شرح الكلام العربي أنفع لِلنَّحْويِّ من كتب مسائله؛ فربما لم يبتهج بكتاب مثلما يبتهج بكتاب لغوي في شرح نص من الكلام العربي المبين قرآنه وشعره ونثره، ولم ينقطع لكتاب مثلما ينقطع له، ولم يستوعب من مسائل علم النحو أنفسها مثلما يستوعب ما يرد في خلاله. ثم تبدو لي كتب المجالس وأشباهها من كتب الأمالي، من مثل: “مجالس ثعلب”، و”أمالي ابن الشجري”، وغيرها التي أنتجتها مجالس أصحابها لطلاب العلم ينظرون لهم كلما لقوهم، في نصوص قصيرة خاصة أو مشكلة، مُحَضَّرة أو مُقْتَرحة، ولا يتركونها حتى يشرحوا خُصوصيَّتها أو يزيلوا  إشكالها، مستطردين إلى ما لا يقع بكتب مسائل علم النحو من الأشباه والنظائر والأضداد والأمثلة والشواهد- أَحْظى بأول إقبال ذلك النَّحْويِّ، وأَدْعى إلى تأمله، وأَرْوَحَ لقلبه؛ فربما لا يكاد يمل تأمل نمط من المسائل حتى ينشط لتأمل غيره. ثم تبدو لي كتب شرح الأمثال العربية القديمة، من مثل: “الأمثال” للقاسم ابن سلام، و”مجمع الأمثال” للميداني، وغيرها التي كانت على طريقة موادها نصوصا من الكلام العربي المبين قصيرة خاصة أو مشكلة -أَعْلَقَ لدى ذلك النَّحْويِّ بكتب الأمالي؛ فربما بحث في تراكيبها المطردة والشاذة عن مسائلها النحوية، ووقف في الكتاب الواحد من الأمثال على أنماط مختلفة، ونظر فيما بينها من جوامع وفوارق؛ فاطلع على طرف من موازنة أنماط الكلام المتزامنة. ثم تبدو لي كتب شرح النصوص الطويلة (القصائد)، من مثل: “شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات” للأنباري، و”الغيث المسجم” للصفدي، وغيرها التي نازعت فيها عقولُ الشراح عقولَ أصحابها سياسةَ الكلام العربي -أَعْلَقَ لدى ذلك النَّحْويِّ بكتب شرح النصوص القصيرة (الأمثال)؛ فربما عكف منها على مسائل التراكيب الفنية الطريفة والتحريرات العلمية اللطيفة، حتى انتبه إلى فروق ما بين النصوص المتزامنة والمتعاقبة بعضها وبعض من جهة، وفروق ما بين الشروح المتزامنة والمتعاقبة بعضها وبعض من جهة أخرى، ووقف على أنماطها المختلفة؛ فاطلع على طرف آخر من موازنة أنماط الكلام المتزامنة والمتعاقبة”.

(268) المشاهدات


موضوعات ذات صلة

Leave a Comment