من بعيد وجدته نعم هو ذلك الفتى ، ترددت كثيرا ، لم أشأ أن أصافحه فينكرني ؛ صرت كبير صبية الحارة ، أقوم بدوره تماما ، أمتلك حكايات ، صرت أمتلك مهارته في القص بل لقبت ب”الراوي”!
عرفته منذ طفولتنا تلك التى درجت بنا في حي صغير من أحياء القاهرة القديمة ، قلعة الكبش ، بنايات حجرية ، جزء من جبل المقطم ، نسكن كيفما اتفق ، نلعب ونجري لا يحدنا فاصل ، ولا يمنعنا باب ، البيوت أشبه بمتاهة ، إن دخلت بيتا فأنت خارج في جهة لا تعلمها فقط ستجد نفسك في زقاق أو سرداب ، ربما تجد إمام الشيعة المختفي وأتباعه له رصد ، أو أظنك ستلقى أبا رجل مسلوخة ؛ هكذا كان الكبار يخوفننا من تلك البيوت المهجورة ، شيء واحد كان يشغله ؛ أن يكون كاتبا !
يختفي فترة ثم نجده وقد أتى بكتاب ، يحدثنا عن أماكن جديدة ، يضرب لنا أمثلة من عالم نجهله ، يخبرنا عن تلك البنايات التى تسكن جوار النهر ، يحدثنا عن صاحب القصر !
أعترف أنه كان يجيد الحكي ، يمتلك مفردات لا أعلمها ، يأتي بها غاية في الجمال ، بصف بذلك الفم الممتليء نضارة ما يعجز ” دافنشي ” أن يصور بريشته ، كان ماهرا في الحكي ، حين كنا نجلس – أطفال الحارة – يسلب عقولنا ، نرحل معه ، نتجول في أقبية الزمن ، كنا نبكي أحيانا ونطرب كثيرا ، قرر أن يترك ” قلعة الكبش ” عجبنا له هل وقع على كنز ؟
من سيخدرنا بتلك الحكايات ؟
هل أحب ابنة صاحب القصر ؟
لم يجب عن أسئلتنا الصامتة ، أتى يوم وأيام ، أصبحنا بلا راو ، غامت ذاكرتنا ، سرقنا الغول من براءة الطفولة ، أحدنا صار حدادا ؛ يا لهول المطرقة التى في يديه ، لكنه بصنع من الحديد آلات للقتل !
صار يصنع سكينا بل قل سيفا ؛ يأتي جند الأتابك ؛ يعطونه بعض دقيق ؛ جراء السيف !
والآخر يعمل خبازا ، كان لديه حوض حجري كبير ، يأخذ من الحداد ما أعطاه الأتابك ، فيعجنه ، كلما أحسن العجن بقدميه يتحول لون الدقيق إلى حمرة ، يأتي الفران
يحمي ببقايا صحف يأتي بها ” بهدول ” خلسة من أروقة المجاورين بالأزهر ، حتى أنت ” بهدول ” تخادع تنتهب الكتاب ، يبيع الخباز تلك الأرغفة المخلوطة بالحمرة ﻷهل الله !
حين اقترب مولد ” السيدة زينب ” ذهبنا نتجول ، كنا مشدوهين ، الناس كأنما اليوم قيامة ، تلك أتت ببطة كانت وهبتها للسيدة وآخر جاء بفأسه وحماره ؛ لينظف أمام السيدة ، وهذا القادم من عمق الصعيد ، نعم ربما من قنا ، جاء بسلال من تمر يوزعها نفحة ، حتى الجدات الكبيرات يمسكن بدقيق ويخلطنه بماء من قربة ، أحضرنها معهن ، كن لا يثقن في ماء قلعة الكبش ، يصنعن ” الرقاق المغطس ” في السمن الفلاحي ؛ وآخر يبدو أنه فلاح يوزع ” الفول النابت ” لا أحد هنا يبيع ، الكل يهب نفحة لأجل ” السيدة ” حقا ما أطهر هؤلاء !
من بعيد وجدته نعم هو ذلك الفتى ، ترددت كثيرا ، لم أشأ أن أصافحه فينكرني ؛ صرت كبير صبية الحارة ، أقوم بدوره تماما ، أمتلك حكايات ، صرت أمتلك مهارته في القص بل لقبت ب ” الراوي ” !
ابتدرته بالتحية ، أنكرني في البداية ، نظرت فوجدت صاحب القصر يرمقني في نظرة كلها تجهم وحنق ، نعم كان ثوبي ممزقا ، وحذائي ؛ لا حذاء إلا خرقة بالية من بقايا خيمة ممزقة من مخلفات أهل ” تلا” كنت مذهولا ، آه لو يعلم صاحب القصر أني أعلم ” سره “!
في رحاب السيدة للسيد شعبان جادو
