طاحونة في زمن الجوع للسيد شعبان جادو

أسمع بالخارج فحيح الثعبان الذي قطع جدي يوما ذيله ، قالت لي أمي : إنه يعرف آل جادو ، لا ينسى ثاراته معهم ، تملكني الفزع ، ترى أيأتي إلي هنا يوم العيد ؟
ولم لا ؟
تلك فرصته !

قريتي يوم العيد مثل أيم ، بل هي وقد اتشحت بثوب العزاء ، نظرت النهر ، جلست إليه ، حاولت أن أسر له ببعض آلامي ، تلك المياه وقد غطاها ” ورد النيل ” وحش ابتلع النهر ؛ أحاله وشيا من خضرة لكن هي والعدم سواء ، كان هنا منتزه الصحب ، ملتقى الأحبة ، جاء الشيطان ، زرع تلك الأحجار ، اختلط القبح بالنزق ، هربت من النهر ، لم يعد ” للجنية ” مكان ، كثيرا ما كنت أطالع وجهها ، أداعب خيالي بطيف منها آت ، لم جاءت ؟ ثمة سؤال يتعبني ، يعنتني ، تهرب الإجابة عنه ، رأيتها قادمة ؛ معاودة اللقاء ، لم تنس الموعد ، ابتسمت ، استدرت ، نهضت إليها ، الدمع يسبقني ، القدم تتعثر بعض خطو ، الحياء يغلبني ، تمالكت ، هممت أن أمد إليها يدي ، في كثير من المرات كنا نلتقي هنا ، نزدهي بأن النهر يرقبنا ، وبعدما نلهو نتعاهد ؛ العيد القادم هنا ، لم تتأخر يوما ، الشوق يستبد بي ، تتدافع الصور من مخيلتي ، القلم يصرفني إليها ، هل أرسم وجهها ، أم أكتب رسائل الشوق إليها ؟
كل ما يلح علي الخاطر يتملكني ، تبدأ الساعات تزحف مثل دودة الحقل ، لا تكل ، تتمطى مثل الثعبان ، أوشكت أن أراها ، وهل العيد دونها عيد؟
ربما تغيرت ملامحها ، وهل أنا كما هو ؛ لا عجب ، الشعر الأبيض مثل الثلج ، أمي كانت تضع الدقيق ؛ حينما كان أبي يأتي من سوق الماشية بواحدة : جاموسة ، عنزة وفي النادر أن يذبح أبي ثورا ، كان هائجا ، أغلقنا الحظيرة جيدا ، حتى كوة الباب جئنا بقطعة من بطانية الشتاء ، تهرأت ، كنا نراها حافظة الورد ، التسابيح ، الابتهالات ، لم يعد يصدح بها بلال ، حين غبت أتيت الضفة ، وجدتها كما هي ، الوجه التقي ، والصبر المر ، جهدت كثيرا أن أرقب طيور الماء ، اختفت هي الأخرى ، على بقايا الأشجار تقف الغربان !
أمسكت ببعض حصوات كانت توجع قدمي ، قذفت بها بعيدا ، لم تصب واحدة غير حمامة كانت تمر !
يبدو أن جلستي تأبى إلا المضي بعيدا !
دخلت من بابها ، يا للعجب الحجر البازلتي !
لقد انشطر إلى نصفين ، جاء الغريب وحملهما بعيدا ، لم يكونا غير كنز سرقهما أحد جند ” أبرهة ”
حتى الطاحونة تبكيك يا نهر !
كانت في يوم العيد دار سبيل ، توزع منها حفنات الدقيق ، عم ” الكيال ” يأخذ أجرته وعاء طحين من قمح أو ذرة ، بل كان يقبل بحبات الفول ؛ يبتاع بها اللحم والسمن ، ويترك في الأجولة ما يفيض ؛ ليوزعه يوم العيد ، بنى المسجد القبلي ، ما يزال موجودا ، حكى لي أبي :
” الكيال ” تبرع من أرضه بما يقارب الفدان للمسجد ، سطحه مسقوف بالخشب ، النهر يرفده بالماء ؛ الوضوء ، له زاوية تتجمع عندها القرية ، اشترى أبي بعضا من أخشابه ، ما تزال عندنا حجرة مسقوفة بها، ها أنا بداخلها ، الأجولة مهترئة ، بل الصدأ يعلو ” الترس ” حتى ” دولاب العلامة ” الفاخر ، سكنته الجرذان ، العناكب نسجت ثوبها داخل القادوس ، أسمع بالخارج فحيح الثعبان الذي قطع جدي يوما ذيله ، قالت لي أمي : إنه يعرف آل جادو ، لا ينسى ثاراته معهم ، تملكني الفزع ، ترى أيأتي إلي هنا يوم العيد ؟
ولم لا ؟
تلك فرصته !
ما أفعل ؟
سأجري .
ﻷطلق لساقي العنان ، لن يتمكن مني ، سآخذ معي عصا جدي ، ماذا حدث ، السوس نخرها !
سأترك هنا تعويذة جدتي ؛ آية الكرسي !
لن يدركني ، إنه عاجز ، بالباب رأيته ؛ ” الكيال ” هدأ من روعي ، في المساء سيكتمل البدر !

موضوعات ذات صلة

Leave a Comment