وجد الحروف التى كان يخفيها ، نعم هي ، موضوعة في إطار ذهبي اللون ، مسح عينيه جيدا “متحف تلة العفريت”
لكن شجرة الجميز ما تزال باقية على أخشابها وإن تساقطت أوراقها !
الراحل إلى الماضي !
يوشك جواده أن يفك قيده ، يغادر مربضه ، يسافر حيث الضفة الأخرى من الجانب الأيمن ، تقلب على الشوك ، للرحيل ألف سبب وسبب!
يريد أن يلوي عنقه ، لكن ما به طاقة فقد
هرم جسده ، انحنى ظهره ، الصدأ العدو الأزلي للذاكرة التي تتأبى على الكسر ، ربما تسعفه ، لم يمض عليه غير يوم واحد في أرض آبائه وفجأة
وقف يحدث نفسه : سأعد زادي ، سأجمع البقايا ، فقد وجب الرحيل !
ما عاد يعرفه في تلك القرية أحد ، حاول أن يستدعي صور الأماكن التى أحبها يوما ، فقد كان يجلس تحت شجرة الجميز ، يلهو تحتها ، نعم هو الآن تذكر :
” تلة العفريت ” كان هذا لقبها ، الشجرة والساقية ، وبالقرب من هذا المكان كانت تأتي – يا لقسوة الزمن ! –
“أمينة ” تحمل معها دميتها ؛ تمشط شعرها ، تلبسها ثيابا من ورق شجرة الجميز ، كان يحفر في ” تركيب دياب ” يخرج بقطعة من الطين ، يأخذ في تشكيلها ، كان بارعا في الكتابة بالطين ، يجعل الأرض سبورة ، يشرع في رص تلك الأشكال في مساحة قدر صفحة من كتاب ، لا ينتبه أن الوقت يمضي ، كل ما يتذكره ” أن أمينة “ذات يوم أخبرته أنها لن تلعب بعد مع الدمية ؛ فقد حان وقت الاحتجاب ، أخبرتها جدتها أن” الغجرية “ستأتي يوم الثلاثاء ، وابتسمت في خجل : جدتي أخبرتني أنني قد صرت مثل تلك الشجرة !
ساعتها أحس بالغربة ، بل جلس وحده حزينا ، لمن سيجمع تلك الكلمات ؟
أخذ يدور في كل ناحية ، أزاح بعض وهن من ذاكرته ، ارتدى نظارته الطبية ؛ أصابته بعض” المياه البيضاء” ، طريق الزراعية وفي نهايته عند ترعة “أبو طبل” كانت أرضهم ، نعم وأشجار الجوافة التى كانت على الشاطيء كانت ثمارها مشاعا للعابرين ، لم يمنع أبوه أحدا ، بل كان يملأ ” الزير ” بماء “السواري” كما كانت تطلق عليه جدته ، أخذ يمشي مستندا على كتف حفيده ، أراد أن يخبره عن المكان ، صعب عليه أن يتكلم ، أصبحت تلك الترعة مقلبا للنفايات ، انكسر ” الزير ” ماتت أشجار الفاكهة ، العلامات تاهت ، اختفت بل حتى وجوه العابرين تغيرت ، لا الثياب ثياب من غادرهم من خمسين عاما ، نعم يوم أن احتجبت أمينة سافر في قطار الدلتا ، أخبروه أن أباه سيعمل في “شبرا” فرح أنه سيكون في أم الدنيا ، نعم ولها سور كبير سيدخلها من باب الحديد !
ما يحب أن يتذكر كان يصحو من نومه على أمل أن يجدها ، اختفت وراء ستار كثيف من دخان المصانع ، حتى اللبن ما عاد يجده كل صباح ، إنها حبات من الفول وأرغفة بيضاء لم تختمر ، انتهت تحت سياط الاغتراب معالم طفولته ، بدأ البحث عن التلة ، يا للحظ هي كما هي ، لكن يقف عند بدايتها خفير ، سأله لم تقف هنا ؟
لم يجب عليه ، بل لوح بهراوته ، كان أشبه بعجل عم حمدان ، كان يقف مع الأطفال يضحكون حين يرمي بالبقرة أرضا ، ما كان يعرف إلا أنهم يؤدبون البقرة حتى تأتي باللبن ، هكذا أخبرته جدته !
وجد الحروف التى كان يخفيها ، نعم هي ، موضوعة في إطار ذهبي اللون ، مسح عينيه جيدا ” متحف تلة العفريت”
لكن شجرة الجميز ما تزال باقية على أخشابها وإن تساقطت أوراقها !
الراحل إلى الماضي للسيد شعبان جادو
