أخرج عبد الله الريامي الشاعر العماني ، قصيدة علي أحمد سعيد أدونيس الشاعر السوري ، ” قَبْرٌ مِنْ أَجْلِ نِيويورْكَ ” ، التي قرأنا في كراماتها أنها كانت وراء تَفْجيرَيِ الحاديَ عَشَرَ من سبتمبر ، بنيويورك وواشنطون – إخراجا مسرحيا تعبيريا ، معتمدا على مُمَثِّلٍ مَغْربيٍّ – أَشُكُّ – مُتْقِنٍ ” عبد القادر ” ، ومُمَثِّلَةٍ عُمانيَّةٍ – أُرَجِّحُ – مُتَوَسِّطَةٍ ” شريفة البلوشية ” ، وصوت أدونيس نفسه من وراء المسرح ، وألحان مرسيل خليفة .
كان ذلك على مسرح حِصْنِ الفُلَيْجِ قُبَيْلَ بَرْكاءَ من منطقة الباطنة بسلطنة عمان، في الثامنة والنصف من مساء الاثنين 30/7/1423هـ=7/10/2002م .
ولما كنتُ آنئذ أكتب في ” تَفْجير نِظامِ اللغة والتفكير ” * ، المنهج الفني الذي سَلَخَ أدونيس من عمره سنين عديدة مديدة يدعو إليه نظرا وعملا – عزمتُ على حضور المحفل على رغم سُكْنايَ في جامعة السلطان قابوس نفسها ، بمنقطع عن طرق السيارات ولا سيارة لي ، ولا أحتمل سؤال الناس مهما كانوا.
يَسَّرَ لي الله – سبحانه ، وتعالى ! – سيارةً بعد سيارةٍ ، فأما التي بَلَّغَتْني الغاية، فكانت ماءَ الحياة في ذلك الطريق الطويل الموحش المروع ، بين شِرْيان الطرق إلى بركاء ، وبين وريدها إلى خبايا القصور والحصون !
أعجبني المَحْضَر ، وأتعبني المَجْلِس !
ثم بحثتُ عن مَكْمَنِ أدونيس ، فلقيته بين طائفة من الموظفين العوام، فيهم ” يوسف الكندي ” الرجل الفاضل تلميذي بالماجستير، والممثل المغربي ، فسلمت عليهم وعلى أدونيس باسمه ” عَليّ ” لا لقبه !
حدثته عن فكرة بحثي ؛ فلم ينكرها ، بلهجة عمانية ؛ فقال لي بلهجة مصرية :
إنت بقى لك هنا كم سنة ؟
قلت : هذه السادسة !
فلم يعقب ، ثم سألني :
إنت إيه تخصصك ؟
قلت : النحو والصرف والعروض !
فلم يعقب . أهديته نسخة من ” براء ” مجموعتي الشعرية الثانية ، قائلا :
تَرى فيها كيف يكتب الشعرَ النَّحْويّونَ !
كاتبا في الإهداء : ” علي أحمد سعيد أدونيس ، تحياتي ، مسقط في … ” ، ثم ندمت بعدئذ على أن لم أكتب ” مسرح حصن الفليج ” ؛ فما أحب تعليق أقوالي وأفعالي بالأماكن ، إليّ !
ثم شرحت له كيف وضعت ” هذا هو اسمي ” ، بإزاء ” قالت لي الأرض “، ثم كيف أعدت كتابة الشعر لأكشف وزنه ؛ فلم يعقب ، لا على طريقة الإعادة، ولا على باعثي إلى اختيار القصيدتين للموازنة ، ولا على خصوصيته الحديثة . ثم سألته :
ألا يجوز أن نقول إنك كنت بمقالاتك في ” زمن الشعر ” وما أشبهه، كأنك ثائر يريد تنبيه مجتمعه الغافل ؛ فلما انتبه كفَّ عما كان يردد ، ولا سيما أنك ذكرت قرابة مئات في العالم العربي ، ساروا على منهجكم ، واتبعوا سبيلكم ؟
قال : يمكنك ، ثم ألا يكفي قضاء ربع قرن في ترديده !
ثم سألته عما يقصد بتَعْرِيَةِ جُذورِ الكلمات لاكتشاف الإيقاع الطبيعي الساحر الأصيل ؛ فقال :
” هذا هو اسمي ” قصيدة موزونة ، بَنَيْتُها على التدوير ، ولم أرفض الوزن ، بل عاديت التكرار ودعوت إلى تجديد القالب .
ثم شرح كيف كتب المتنبي وأبو تمام من الطويل ، فلم يكونا ولم يقولا شيئا واحدا . ولما حدثته عن رغبة حسب الشيخ جعفر أن يهشم التفعيلة ، ذكر أنه لم يخرج أو ينخلع من الوزن ! ثم سألته :
ألا ترى النحو كفيلا باستيعاب كل من يتوهم أنه يخرج من أقطار اللغة والتفكير العربيين ؟
فقال : لا ورود هنا لخروج ، ولا حديث عنه ، بل عن التجديد .
ولما سألته عن فقده الأمل في أساتذة الجامعة ، قال :
عَنَيْتُ الأكاديميين !
ولما ذكرت له عبد الكريم حسن ، قال وكأنما خشي أن أتهمه هو بالدكتوراه :
ليس بأكاديمي !
ثم حالت بيني وبينه الحِسانُ المُسَلِّماتُ عليه والخُشْنُ المُسْتَعْجِلوني ؛ فاستأذنته، وذهبت عنه إلى جماعة تلامذتي وصحابتهم من طلاب جامعة السلطان قابوس، الذين التقوا على الافتتان بأدونيس ، ولم أُنَفِّرْهُمْ منه .
لقد أحسست من أدونيس ، الشَّيْخوخَةَ والِانْهِدادَ ، ورأيته قَلَّلَ مِنْ نفسه – إن لم تكن هذه طبيعته – بحضوره ، ومشاركته ، ومجالسته ، ولا سيما أنه كان في أولئك الْمُجالِسيهِ ، غَريبًا مُفْرَدًا !
ومن طرائف ذلك المساء ، أن جماعة برنامجٍ مُتَلْفَزٍ ، حضروا ؛ فلم يختاروا للكلام عن العمل ، غيري ، ولم أكن أعرف ما سيكون إلا بعدئذ ؛ فأخذت من كلام المذيع ، وشرحت رأيي في أدونيس الشاعر ، ومرسيل خليفة الملحن ، ولم يكن لي علم بالريامي المخرج الشاعر ولا الْمُمَثِّلَيْنِ ، لأقول فيهم شيئا !
ومن تلك الطرائف أنه سمعني أتكلم ، لُبْنانيٌّ يحب مواطنه مرسيل خليفة ، فتطوَّع بتوصيلي إلى مسقط ، فاعتذرت منه ، ثم خرجنا معًا ، فإذا هو شابٌّ لطيف يتعجب من أن يذكر مرسيل خليفة هنا أحد ؛ فقلت له :
هؤلاء الشباب جميعا يعرفونه ويحبونه !
ثم تكلمنا في هذا المعنى ، وفي أعمال كل منا ، ثم لما هممنا بلقاء أدونيس اعتذر بما بينهما من مشكلات ” عقائدية ” !
كان اسمه إبراهيم فادي ، أو فادي إبراهيم ، وربما كان من شيعة لبنان المستنكرين على هذا الشيعي أدونيس مُروقَه ، أو من سُنَّتها المستنكرين عليه عواقبَ تَشَيُّعِه !
ومن تلك الطرائف أن خميس بن قلم الهنائي تلميذي الشاعر الموهوب ، وكان حديث عهد بحرية مِنْ عِقالٍ اعتقلته فيه قصةٌ ارْتَكَبَها ثم لم يزل مطلوبا بها – وجدني مُتَقَبِّضًا مُتَحَبِّسًا لأدونيس ، فعَقَّبَ يَتَذاكى :
ما أشد تواضعك ! انظر كيف جلست إليه ، ثم كيف نجلس نحن إليك !
يُمَوِّهُ بِتَواضُعي وإِساءَتِهم ، تَصاغُرًا وتَكابُرًا ؛ فَنَبَّهْتُه على أنها عادتي مع مَنْ لا أُلْفَةَ بيني وبينه مِمَّنْ أَرى لَهُمْ خُصوصيَّةً ما !
ثم كان هو نفسه الذي عاد بي إلى بيتي بالجامعة !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ