تربية الأبناء


بلغنا أن لكم في تدريب أبنائكم على القراءة ، منهجا خاصا ؛ فهلّا تكرمتم ببيانه!

سؤال سُئِلْتُه صباح الأحد 17/6/2001م ، على منصة مسرح كلية دبي الطبية، بعقب محاضرتي ” اللُّغَةُ الْعَرَبيَّةُ اعْتِقادٌ وَحَياةٌ ” – مكتوبا بخط النسخ  الجميل؛ فأثارني إلى ذكريات حميمة حبيبة!

ولله عندي الآن خمس نعم لا ينقضي شكرُها ، ولا التمتعُ بذكرها  مُرَتَّبَةً : ( ريم ، بَراء ، رِهام ، سُرى ، فُرات ) ، ثلاث بنات ( ريم ، رِهام ، سُرى ) ، وابنان اثنان ( بَراء ، فُرات ) – ولا الولعُ بسيرتها!

لم تكن الكتب ممتنعة عليهم بحصن حصين ، بل مرتبة على الجدران من تحت إلى فوق في رفوفها المفتوحة ، و بينها أجلس دائما على مكتبي قارئا أو كاتبا ، حتى كان من لوازم رسائلي عندئذ ، إضافة ” بَيْنَ الْكُتُبِ ” ، إلى التاريخ – فكانت مأوى أجسامهم وأرواحهم ، يَحْبونَ إليها صغارا ، ويمسكون بكعوب ما يستطيعون من كتب أقرب الرفوف إليهم ، ويَجُرّونها ؛ فَأُسْرِعُ إلى وضعها بأيديهم في أماكنها ، ونهيهم عن جَرِّها ، حتى تعلموا أن يعيشوا بينها حياتهم كلها جدها وهزلها ، من غير أن يعبثوا بها .

ثم لما اطمأننت إلى مجالستهم أَتَحْتُ لهم بعض الكتب والمجلات   المصورة ، وساعدتهم على تقليب صفحاتها ، حتى استطاعوا ذلك وحدهم ؛ فكانوا يمشون إليها مُتَعَثِّرينَ ، يجذبونها من على رفوفها ، إلى حيث يُقَلِّبونها وكأنهم سيقرؤونها ، مثلما أُقَلِّب وأقرأ !

ثم لما قدروا على الكلام رَتَّبْتُ لهم في كراسات صغيرة ، نصوصا كاملة من القرآن والحديث والشعر ، سورا وأحاديث وقصائد ، كنت أُحفِّظهم إياها وأَسْمَعُها منهم بين يَدَيْ مقدمة لازمة :

” بِسْمِ اللّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلى رَسولِ اللّهِ ، وَبَعْدُ ؛ فَأَنَا أَحْفَظُ الْقُرْآنَ الْكَريمَ وَالْحَديثَ الشَّريفَ وَالشِّعْرَ النَّفيسَ ؛ فَأَنَا عالِمَةُ النّاسِ وَأَديبَتُهُمُ الْمُقَدَّمَةُ – أَوْ عالِمُ النّاسِ وَأَديبُهُمُ الْمُقَدَّمُ – إِنْ شاءَ اللّهُ ، تَعالى ” !

ثم لما قدروا على القراءة رَتَّبْتُ لهم مجموعات الكتب المناسبة مُتَصاعِدَةً ، من كتب العريان ، وبرانق ، والإبراشي ، وابن جَنّات ، و” كل شيء عن ” المترجَمة إلى العربية – إلى كتب الندوي ، ورأفت الباشا ، وخالد محمد خالد – ثم إلى كتب عبد الحليم محمود ، والغزالي ، والبوطي – ثم إلى كتب ” مكتبة الأسرة ” ، و” هل تعلم لماذا ” ، و” موسوعة العلوم والتكنولوجيا ” – ثم إلى كتب المازني ، والعقاد ، ومحمود محمد شاكر ، ومحمد جمال صقر – ! – ثم إلى كتب شيكسبير الإنجليزية الخالصة ، وكتب العيسى وجويدة والشرقاوي المترجمة إلى الإنجليزية – ثم كتب معاجم العربية ( الوجيز ، والوسيط ، ولسان العرب ) ، والإنجليزية ( المورد ) – ثم دلتهم الكتب بعضها على بعض ! بل كثيرا ما صحبوني إلى المكتبات ولا سيما في معرض القاهرة الدولي ، فاختاروها !

وكنت أغريهم بتلوين صور الكتب غير الملونة :

–        اللّي يِخَلَّصْ كِتابْ يِلَوِّنُو !

سعيدا بذكاء أصحاب هذه الكتب ، الذين مكنوني من ذلك ، بطبع صورها مفرغة غير ملونة !

ثم علمتهم تكرار قراءة الكتب ، والتعليق عليها من أواخرها ، برقم كل قراءة ، وتاريخها ، مع توقيعاتهم :

–        تمت الأولى – أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة … – مساء السبت (…) هـ= (…) م ، ريم ، براء ، رهام ، سرى .

فكانوا يمضون في القراءة اللاحقة أسرع مما مضوا في السابقة ، ويستفيدون منها أكثر ، ويسألون فيها أقل ، فيفرحون بها أشد ، ويتنافسون :

–        براء ، انت في المره الكام ؟

–        التانيه .

–        أنا في الرابعه !

–        رهام ، انت في المره الكام ؟

–        الأولى .

–        أنا في التانيه !

كانت ريم أسرع من براء ، ثم صار براء أسرع منها ، وكانت سرى أسرع من رهام ، ثم صارت رهام أسرع منها ، ولا يدومون على حال ! ولكنهم إذا راجعوا الآن تلك الكتب ، وعثروا على تعليقاتهم ، بَشّوا لها كلهم جميعا ، بَشاشَتَهم للأحباب الزائرين !

ثم صرت أطالبهم بالتعبير في أسطر قليلة ، عما فهموه من الكتاب – ثم بالتعبير عما عاشوه في بعض المناسبات ، وأعلق لهم على هذا وذاك ، وأكافئهم بما يحبون ، حتى تَقَدَّسَتْ لديهم القراءة والكتابة !

ثم غرست لهم القراءة الحرة ، في برنامج أعمالهم اليومية :

1        الصلاة .

2        ورد القرآن الكريم .

3        مذاكرة دروس اليوم المدرسية .

4        إنجاز واجبات اليوم المدرسية .

5        مذاكرة مادة مدرسية كاملة .

6        ورد القراءة الحرة .

7        معالجة عمل الحاسوب .

8        مشاهدة مادة مُتَلْفَزة .

ولم يكونوا أنشط منهم إذا جالسوني ، وكنتُ من إخوان العزلة ؛ فكنت أصبر مضطرا ، حتى رأيت أن أحمل نفسي على التفكير بينهم في أَعْوَصِ أبحاثي ؛ ففُرِقَ لي فيه عما لم يكن في البال !

ولقد انفتح لهم بالقراءة الحرة ، باب الأسئلة الكثيرة المستمرة ، التي كانت تقطع عليَّ تفكيري ؛ فتستفزني إلى إسكاتهم حتى أفرغ ، أو إلى تعليمهم كيف يجيبونها هم وحدهم – مثلما تستفزني إلى إجابتها :

–        بابا !

–        نعم !

–        إيه الكلمة دي ؟

–        دي ” أَقْبَلَ ” .

–        معناها إيه ؟

–        معناها ” جِهْ ” .

–        ودي ؟

–        دي ” قَدِمَ ” .

–        معناها إيه ؟

–        معناها ” جِهْ ” .

–        ” قَدِمَ ” زي ” أَقْبَلَ ” !

–        مش زيها قوي ، لكن عامله زيها !

–        بابا !

–        يا نعم !

–        يعني إيه ” قَدِمَ صَديقَه عَلى نَفْسِه ” ؟

–        ” قَدَّمَ صَديقَه عَلى نَفْسِه ” !

–        لأ ، ” قَدِمَ صَديقَه عَلى نَفْسِه ” !

–        وَرّيني !

–        أَهِهْ !

–        لأ ، الكسرة اللي تحت الدال دي غلط !

–        وعرفت إزاي من غير ما تشوف ؟

–        عشان اتعلمت قبلكو ! وكل ما تقروا تتعلموا ، وتبقوا زيي وأحسن مني كمان !

ثم كبروا ، وكبرت أسئلتهم ، وصعبت ، حتى أشكلت أحيانا ؛ فلم أكن أَسْتَحْيي من إجابة مُحْرِجِها دينيةً أو سياسيةً أو جنسيةً ، ولا أدعي علم ما لا أعلم منها ، بل أتمتع بإنكار علمه ، ليعلموا أن العلم لمن اجتهد في سبيل تحصيله ، لا لمن أوتي مقام الراعي ! وأتمتع بتعريف العلماء لهم ، وتقديمهم على نفسي ، ليعلموا أن فوق كل ذي علم عليمًا بَذَلَ في طلبه أعظم مما بَذَل غيره ، ينبغي أن يؤتى دون غيره ، ويستفتى ، ويعتمد رأيه وحده .

ولقد مَيَّزَتْهُمْ قراءاتهم منذ أَوَّليَّتِهِمْ ، حتى لاحظها زملاؤهم :

–        إنت عارفه – يا ريم – ان الكتب اللي بتقريها بتأثر عليك !

–        إزاي يعني ؟

–        بتخليك تفكري في حاجات غريبه !

وأساتذتهم :

–        تعال – يا براء – قول لسعادة الموجه انت قريت لمين !

–        قريت للمازني ، والعقاد ، … .

–        يا سلام !

وجَرَّأَهُمْ منذ أَوَّليَّتِهِمْ كذلك ، مَقامُ القراءة الذي قُمْنا فيه جميعا معا :

–        إيه ده ، يا رهام !

–        إيه فيه إيه ؟

–        إنت بتكلمي الأستاذ كده إزاي !

–        إيه ! زي ما بكلم بابا .

(949) المشاهدات


موضوعات ذات صلة

Leave a Comment