في أثناء الأزمة،
كنت أرجو أن يخرج بقصتي هذه فيلم سينمائي،
يفضح المشاعر الكامنة!
مصريان…
أما صلاح ففتى أسمر طيب قوي البنيان، من إحدى قرى المنوفية، وقريته أبعد القرى عن ملامح المدن التي جعلت تبغي على ريف مصر.
وأما محمود فمارد أشقر أخرق عريض الدعوى، من إحدى قرى كفر الشيخ التي ظلمتها المدينة فانظلمت!
بين المنوفية وكفر الشيخ مسافة سفر، غير أن أقدار التجنيد بالجيش جمّاعة، والاجتماع هنا نادر غريب عليهما؛ إنهما معا في خيمة واحدة ضمن فصيلة واحدة من سرية وقود تابعة لحَفْرِ الباطِنِ إحدى مدن شمالي شرقي المملكة السعودية!
ربما نسيت هذه المدينة اسمها آنفا لندرة ذكره، غير أنها الآن حديث العالم كله لما يعمها من صخب الحرب.
صدر الآن أمر من قائد السرية بذهاب اثني عشر جنديا إلى مدينة القيصومة الكائنة على عشرين كيلومتر من حفر الباطن، ليتسلموا ست سيارات، فكان من الجماعة صلاح ومحمود.
فوجئت الجماعة في القيصومة بأن السيارات شاحنات ضخمات فخمات لا كما تخيلوا أو عهدوا، فجعلوا يجادلون قائد المقر في تسلمها؛ وما ذلك إلا لأنهم تعودوا في بلدهم أن متسلم السيارة مسؤول عنها، يغرم من ماله ومال أهله خسائرها وأثمان إصلاحاتها، وهذه الشاحنات لا قبل لأحدهم بما يصيبها ولو باع قريته كلها!
فيقول أحدهم:
لا علم لي بقيادة هذا النوع.
ويذكر آخر أن أكبر ما قاده سيارة جيب؛ فيسخر القائد منه شاتما:
وهل وجدت أكبر من ذلك -يا ابن الحافي- لتقوده!
كان نصيبَ كل شاحنة جنديان: سائق ومرافق، ولم يكن إلا أن يأتوا بها؛ فقر قرارهم بعد جدالهم ذلك، وتم لخمس شاحنات أطقمها، وبقيت واحدة أمامها صلاح ومحمود صاحبانا!
أمر قائد المقر صلاحا بتسلمها؛ فأبى معتذرا بضعف خبرته بهذا النوع؛ فتحول إلى محمود، فقبل مرحبا، ذاكرا أنه صاحبها الذي سيقودها متألقة، وأنه يعلم…، ويفعل…، وسيفعل…!
تم الأمر، واصطفت الشاحنات، فكانت خامستَها في الترتيب التي يقودها محمود وبجواره صلاح، ثم استمع الجميع لشرح طريقة استخدام مفاتيح الشاحنة.
صار الأمر إلى جماعة الجنود، وخرج عن سلطان قائد المقر، فابتدؤوا السير إلا الأخيرتين، والحق أَلّا ذنب لقائد السادسة إلا أن الخامسة تعوقه؛ فقد كان محمود يديرها كمغامر، فترتج كمصروع، ثم تقف؛ فضاق به قائد السادسة؛ فاحتال حتى تجاوزه، وأدرك القافلة.
يعيد صاحبنا الكرة؛ فتعيد الشاحنة فعلتها، ولا يكاد يرى الأفق أمامه ولا القافلة.
خطر لصلاح وهو سائق كذلك -وإن لم يكن مدعيا ولا خبيرا- أن تكون مكابح المقطورة غير مرفوعة -فكل شاحنة بُنْيانان: مقطورة تحمل الوقود، وجرّار يجرها، به مجلس القيادة– فأخبر صاحبه بذلك، وبحثا عنها، فوجدا إصبع حديد بجانب كرسي القيادة، فجذباها، ثم أدار محمود الشاحنة، فتحركت، ونسيت صرَعها قليلا.
لقد كانت فخمة سهلة الإسراع؛ فأغرت صاحبنا؛ فبلغ بها أَوْجَ سرعتها.
الله! عما قليل ندرك أولئك الجبناء، ونسبقهم.
انتبه، يا محمود، عَمَرَ الله بيتك!
عروس، والله…!
يا ابني ما لك تميل يمينا ويسارا شاغلا الطريق كلها!
هكذا الطرق، ما أحسن ألا يسير فيها غيرك!
لم يتمتعا طويلا بانفرادهما بطريق فخمة في شاحنة أفخم؛ فقد برزت خلفهما سيارة جيب يحاول قائدها الأمريكي -وكل أجنبي عندهما الآن أمريكي- أن يفوتهما فلا يعرف، لتمايل الشاحنة يمنة ويسرة.
انتبه محمود لما نبهه صلاح طالبا منه أن يفسح له ليستريحا. لم يكن محمود عاصيًا أو آبيًا، بل أسيرا لطغيان صاحبته التي كان تمايلها له أقصى ما منت به عليه.
لم يرض قائد الجيب الأمريكي -وهو أخف منهما حركة- أن تطول هذه الحال، فاحتال حتى أفلتهما، فما كادا يحمدان الله أن استراحا من قلقه حتى رأيا نور الجيب الخلفي الدال على بداءة توقفها.
لم يقنع الأمريكي المَغيظ، بإفلاته من نزق الشاحنة وصاحبيها، فأوهمهما بضغطة سريعة على مكابح سيارته أنه سيقف مضطرا، ثم فر طائرا غير أنه خلّف مأزقا كبيرا.
بادر محمود فداس فرامل جرار شاحنته وحدها دوسا كاملا؛ فثار بعض الشاحنة على بعضها، وذهل محمود عن أمره، وداخ صلاح، وحلم بأن كائنة مفزعة تدحرجت مرارا وأنهما يستقبلان أمرا خطيرا…!
لم يعرفا ما حدث، لكن عرفا أن الله سلم! ثم تفقدا الشاحنة فوجدا المقطورة عند دوس المكابح، قد هجمت على الجرار وفيه مجلسهما؛ فعجنت سريرا به، وأقبلت ناحية صلاح؛ فغاصت بالباب في بدن الجرار، وتلعبت ببطنه؛ فأفسدت أجهزته، وسمعا خريرا، فنزلا يتفقدان أسفل أمرها؛ فراع صلاحا دَمٌ أحمر قانٍ يُبادِرُ الأرض، فيُلَوِّنُها!
محمود، يا خبرا أسود! فتش فيّ، وسأفتش فيك، لنعلم مصدر هذا الدم…!
لا شيء بك.
ولا بك.
عد بنا ندقق النظر…
محمود، فتح الله على أهلك، هذا زيت عجلة القيادة، تم الخير والحمد لله!
ماذا سنفعل إذن!
ننتظر يا غبي؛ فعندما تصل الشاحنات إلى حفر الباطن سيكتشف القائد غيابنا، فيسأل ثم يعالج الأمر، وأنت تعلم علاجه!
وقد حدث ما قَدَّره صلاح، ولكن بعد وقت؛ ففي عصر ذلك اليوم جاءهما القائد ومعاونه بحافلة جيش؛ فسَلَّما بوابل من السخرية والتقريع والتوبيخ والسب واللعن، ثم حاولا شد الشاحنة؛ فما استطاعت الحافلة إلا تَنْحِيَتَها عن عُرْض الطريق.
حَكَمَ القائد لما علم منهما معا حقيقة الوَقْعَة، ببقاء محمود وأخذ صلاح معه لإحضار ما يمكنه جر هذه الشاحنة؛ فتطوع معاونه، فرأى أن يبقى صلاح كذلك، فأنفذ القائد رأيه -ومن قديمٍ تَجْني الصُّحْبة- ثم رجعا كأن لم يأتيا…!
بقي صلاح ومحمود مع شاحنة ضخمة، لا قِبَلَ لهما بضمان سلامتها، في طريق غريبة لا علم لهما بها، مخنوقة برمال لا نهاية لها، لا يكاد يزورها أحد، وقد أزف رحيل النهار…!
ها هما يضطربان بأمرهما وقد أحسا للجوع ببطنيهما كطعنات رماح، وليس معهما من زاد الجيش شيء، فلم يكن مقدرا لرحلتهما أن تطول، ولا عبأ بهما الضابطان، ولإقبال المغيب ألم كسكرات الموت ووحشة تؤازرها وحشة الأرض القفر وفقد الأنيس…!
ها هما يتلاومان، ويتمنيان:
أف لك ولهذا المكان، لكأنك أنت وقادتك والمكان والزمان، اتفقتم على إهلاكي… ألا تعلم حقيقة حالنا! لو خرج لنا أحدهم وهم يتضورون الآن في مخابئهم، لهاجمنا طلبًا لما يُحْييه، غير متورع عن قتلنا إن شاغبناه…! ويلي عليك! من لي الآن بطبيخ أمي أو خبيزها أو شايها، أرقبها تصنع ذلك في دهليز دارنا، مالئا عيني من معارفها الحبيبة، مجاذبا أبي الطيب الحديث، ملاعبا أولاد إخوتي الذين يملؤون الدار…!
آه! في مثل هذا الوقت يؤوب الفلاحون ببهائمهم إلى دورهم ليجدوا نساءهم قد صنعن لهم طعامهم وحَسَّنَّه ما استطعن، فإن كنت فيهم أقبلَتْ عليَّ رياح الطمأنينة كلما دنوتُ من دارنا، وإن كنت في الدار طالعتهم وهم يمرون على بابنا المفتوح أبدا للمُسَلِّمين، فتغمر قلبي طمأنينة كتلك، من حياطتهم وبرهم ونفوسهم الطاهرة…!
آه! أيها الطيبون الطاهرون، تراكم راضين عني!هون عليك، يا صلاح، عما قريب يحضر من يأخذنا من هذا المكان…
انظر، ألا ترى تلك الخيمة؟
أين؟ ليس ثم شيء!
انتبه -يا أعمى، يا عديم المنفعة- هناك!
نعم نعم، على مرمى البصر.
أنت بالطبع محظوظ، لا تصلح لشيء، فابق هنا، وأغلق عليك زجاج الجرار، واحفظ سلاحنا؛ فلن آخذ بندقيتي لكيلا يظن بي أحد شرا. وعندك ستمئة رصاصة معبأة وغير معبأة؛ فاحترس، وقدم سوء الظن بمن يقبل عليك حتى تسلم، وسوف أذهب إلى تلك الخيمة علني أجد طعاما أو شرابا.
بالله، لا تتأخر!
حث صلاح الخطا، حتى إذا ما قارب المقصد وجد حائط سلك، فأقبل يتفقده؛ فصاح فيه شيء:
إستب…!
(هذا إذن جندي أمريكي كذلك، وهذه منطقة عسكرية، ولو رجعت جريا حسبك عدوّا؛ فاستعمل سلاحه، ولو أقدمت لم تأمن، ولا علم لك بلغته. لا تظن ما ألقي عليك في دراستيك الإعدادية والثانوية الزراعية من دروس الإنجليزية ذا فائدة! لا جدوى من ذلك وما كنت تظن أن تقف هذا الموقف أبدًا. فكيف ترى)؟
هيه… أنا إيجيبت… إيجيبت…!
إيجبت كايرو؟
فأشار إليه صلاح موافقا؛ فأشار إليه الأمريكي أن يذهب إلى مكان متقدم…
وصل إلى المكان، فلقيه جندي آخر، ثَبَّته كما صنع الأول؛ فذكر له ما ذكره لصاحبه السابق، فدخل حجرة في المكان، فخرج آخر يبدو أعلى رتبة، فحياه ثم رطن له رطانة لم يفقهها؛ ففكر صلاح، ثم أظهر هويته العسكرية ظنا منه أنها ستحسن موقفه شيئا، فتفقدها الأمريكي، ثم أظهر له ما يشبه القبول والموافقة عائدًا إلى رطانته…
(نعم! الله الله!
هذا إذن آخر المطاف!
هذا هو الذي سيفهمني حقا بعد أن أبى الزملاء والقادة والمكان والزمان!
كيف أصنع يا ربي…!
أشير…؟
نعم، أشير له… أشير…).
أشار صلاح إلى الخلف وأن له شاحنة تعطلت على الطريق، وإلى بطنه وأن ليس به شيء، وإلى فمه وأنه يريد أن يأكل، وإلى حيث صاحبه وأنه يريد طعامًا لاثنين!
نجحت محاولته -ولقد تغني الإشارة- فأمر الأمريكي زميله، فذهب عنهما بعيدا…
بقي صلاح مع الأمريكي الذي ظل يرطن له ضاحكا، وصلاح لا يفهم كلامه ولا يعرف لضحكه سببا، حتى ضاق به؛ ففكر أن يصنع مثله…!
استجمع صلاح غيظه، ثم انفجر ضاحكًا قائلا:
ألا تدري أنكم بقر! نعم بقر، أقسم لك بالله أنتم بقر! هأ هأ هاي…!
بعد قليل أتى الجندي المأمور بِكيسَيْنِ أخذهما صلاح فاهما أنهما الطعام على رغم تَرَجْرُجِهما في يده كأن بهما عجينا شديد اللين، ثم أشار للأمريكي أنه يريد ماء لنفسه ولصاحبه أيضًا، فأحضر له زجاجتين كبيرتين، أخذهما شاكرا شكرا إنجليزيا:
سانك يو!
فطفق الأمريكي يكرر معه:
ثانك يو!
سانك يو!
ثانك يو!
… عاد صلاح يحاول الاهتداء إلى مكان صاحبه وشاحنته التي كانت بلون الصحراء، ولكن كان الليل قد ألبس الكون ثوبا مخيفا، والليلة كما بدا له، لَيْلاءُ، والحركة مهلكة!
جعل صلاح يسير مرة ها هنا ومرة ها هنا على غير هدى، يخبط الأرض خَبْطَ عَشْواءَ، إذا داس أو مال بشِقِّه لم يأمن أن يزل في بئر أو ينطح صخرة…
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
أهكذا…!
ليتني كنت انتبهت إلى دروس الضابط التي كان يحاول فيها أن يعلمنا الاهتداء بالنجوم…!
ليتني لم أترك ذلك البغل في الشاحنة…!
ماذا لو كنا انتظرنا قليلا أو كثيرا…!
ليتني لم آت إلى هنا…!
ليت أمي لم تلدني…)!
الآن أحس إقبال سيارة من بعيد، أسرع، فتلفت مهتديًا بنورها؛ فاكتشف مكان الشاحنة الذي لم يكن بعيدا، فسار إليه…
أقبلت سيارة أخرى، فاهتدى بنورها؛ فاكتشف أنه أخذ في جهة غير جهة الشاحنة؛ فعجب كيف مال سيره هذا الميل كله!
ثم احتاط هذه المرة؛ فأقبل على الشاحنة الكئيبة…!
ما كاد يقاربها حتى وجد صاحبه قد أخرج بندقيته الآلية ووَجَّهها إليه تمامًا آمرا بالوقوف! صرخ فيه صلاح مستجمعا كَمَدَه وتعبه:
ولد، يا محمود، يا ابن الأهبل، أنا صلاح، يا غبي، خرب الله بيتك وبيت أهلك! وقد أحضرت لك سما ناقعا لتأكل وتشرب!
عندئذ فقط عرفه محمود، وجاع له!
نزل، وأقبل عليه يعاتبه:
أتدري، لقد كان مكوثك معي خيرا من أن تتركني هذا الوقت وحدي!
وأنا يا ابن الفالحة، تراني سعدت بهذه المغامرات المهلكة!
دع عنك هذا، وتعال نفض الكيسين، ونأكل، ونشرب…
فتح كل منهما كيسه؛ فوجدا فيهما شيئا يشبه فَتَّةَ اللَّبَن، له رائحة غريبة، وكذلك كان طعمه؛ فتركاه، وأقبلا على غيره فَضًّا وفَتْحًا وفَتْكًا؛ فما استفادا غير قطعتي بسكوت وقطعتي لبان؛ فأكلا الأوليين وشربا عليهما، ومضغا الأخريين؛ فربما أغنتا عن الحصا الذي نُصِحا به لإدرار اللعاب.
ما زالا جائعين منتظرين، ولا شيء غير الويل وغير قلب الليل…!
لكن ها هي ذي سيارة تقترب، فتقف:
يا شيخ، معك وقود؟
لا، هل معك أنت أَكْل؟
لا، سلام عليكم…!
ما أضل عقارب الساعة في هذه الظلمة…! ها هي ذي سيارة أخرى تقترب، فتقف كذلك:
يا شيخ، معك وقود؟
لا، لكن هل معك أنت أكل؟
معي كيس خبز.
إلينا به… هل معك إذن غموس؟
أيش تقول، يا شيخ؟
هل معك شيء نأكله بالخبز؟
لا، والله، يا شيخ، سلام عليكم…!
محمود، بهذا الكيس عشرة أرغفة، لكلٍّ خمسة، وأمامك الماء، نأكل الخبز ونشرب عليه.
لم يتجاوز كل واحد أربعة أرغفة، كانا يلفان الرغيف ثم يفتكان به على مرتين، ثم حفظا الرغيفين الباقيين حَذَر المجهول!
عندما حل منتصف الليل كانت سيارة شرطة عسكرية سعودية قد حضرت بجرار ضخم استطاع أن يخضع الشاحنة ويستتبعها، ثم لما هَمَّ الركب بالسير مال محمود على بعض من حضر إليهما سائلا بين خوف ورجاء:
بالله، أخبرني: هل سنغرم ثمن إصلاح هذه الشاحنة؟
يا أخي، هذا الذي أصابها قضاء وقَدَر!
ما تعرف القضاء والقدر!
(1453) المشاهدات
قصة جميلة!
لكنها كانت تلعب بمشاعري لعبا،
فما لبثت إلا أن تصدمني بكذا خاتمة،
فأهدأ وأستوي كاستوائها على الجودي!
اللهم رفيق خليل!
هكذا الدنيا!
لله درك
سبحانه
جزاك خيرا
لا نحصي ثناء عليه
يتوقع أحدهم دوما السيئ و لا يتوقع الحسن
فيظل الرجل يقلق يقلق حتى لتسمع القلق في أنفاسه
و لا يدري أن كل ما هو آتٍ قد كُتب
نعم
ومن تفاءل بالخير وجده
فإن لم يجده أوشك أن يقع قريبا منه
ولا خير في التشاؤم